المهن الإعلامية في ميزان الانحسار والانتشار!

د. محمد عبد العزيز الحيزان المستشار والخبير في مجال الإعلام والاتصال


شكل ابتكار شبكة المعلومات العالمية “الإنترنت”، الشرارة الأولى لحدوث تغيرات جذرية شملت كافة مظاهره، بما في ذلك اختفاء وابتكار وسائل الإعلام وأساليب ممارسته، وهو ما أوجب تطوير مفهوم تخصص الإعلام ذاته، وضرورة إعادة هيكلة أدواته، وذلك وفقًا لما صاحب المشهد الجديد من مبتكرات في الأدوات، أو إضافات في الخصائص الاتصالية نفسها، وبخاصة في جوانب تحقق قدرة المستقبِل على التفاعل، ووصول ردود الأفعال بشكل مماثل لما يقوم به المرسل نفسه.
فالتغيرات التي صاحبت هذه الموجة العاتية من التطور، ليست كما كانت عليه الأحوال في سابقاتها، التي اتسمت بأنها ذات تأثير محدود يلامس جزءً يسيرًا من محيط دائرة الاتصال دون أن يتسبب في تغير شمولي، وبعبارة أخرى هو لم يكن تغييرًا محدودًا في الشكل، بل عم وبقوة سائر مكوناته، اعتمادًا على خاصية الرقمية.
بناءً على ذلك، فإن تطور تكنولوجيا الاتصال الرقمية السريعة التي شهدها عصرنا الحالي، كان كفيلًا بإحداث تحولاتٍ دراماتيكية في مجال صناعة الإعلام، وشكلت كيفية التعامل مع هذا التطور المختلف، التحدي الأصعب الذي يحتاج إلى وقفة متأنية للتعرف عليها بصورة دقيقة، ليس لمجرد التكيف معه، ولكن – وهو الأهم – لكي نتمكن من الاستفادة منه بالشكل المتكامل في ميدان الممارسة، انطلاقًا من مسلَّمَة أن المرونة في حقل الاتصال على وجه التحديد، هي جزءً من شروط التطوير، عدا عن حقيقة أن الوصول إلى ذلك الهدف لا يمكن أن يتم من خلال محاولات عشوائية، أو اجتهادات فردية، التي وإن استطاعت أن تسهم في أداء وظائفه، إلا أن الحقيقة تؤكد أن الفهم العميق لواقع التخصص في ثوبه الجديد بكامل أدواته، ومواطن استخدام وسائله، وكذا سبل إعداد محتواها في ضوء طبيعة متغيراته، أمر في غاية الأهمية لتحديد المهن المناسبة لواقع الصناعة في ثوبها الجديد، خاصة أنه طرأ عليها تغييرات مليئة بالتفاصيل الدقيقة، ومن الخطأ الاعتقاد أن كوادر شكلها التقليدي قادرة على ملء الفراغ الكبير الذي ستعاني منه الأدوات الجديدة.
وعلى الرغم من أن أبرز مفارقات التحول الجذري الذي شهده ميدان الاتصال في العصر الرقمي، أنه في الوقت الذي باتت العديد من المؤسسات الإعلامية تعاني من فقدانها لمقوماتها، ولوهجها، وربما لمكانتها، وكذا من فقد العاملين بها لوظائفهم، إلا أن الواقع يقرر بأن هناك تضاعفًا نوعيًّا في أعداد الفرص المهنية الجديدة، وأنها لم تعد محصورة في مهام محدودة في قوى بشرية معينة، بل أنها باتت في أشكال مختلفة ومتنوعة، أوجدتها الابتكارات المتسارعة في الأدوات والوسائل المستحدثة، وصاحب ذلك التعريف بخصائص ومزايا حديثة أهمها خاصية تمكين الجمهور بشكل عام من الانخراط في الميدان، وتمكنه من ميزة “التفاعلية” التي كانت أبرز عيوب الفضاء القديم، وكفيلة بإحداث ارتباك كبير في الساحة الإعلامية.
وبين هاتين المفارقتين المتضادتين انقسمت الآراء لدى المختصين والممارسين، من المحترفين والهواة، إلى شقين، وذلك وفقًا لمستوى فهم كل منهم لواقع الإعلام الجديد ومستقبله، فمنهم من حكم مسبقًا بأفول نجم الإعلام وتلاشيه، ومنهم من يرى خلاف ذلك، انطلاقًا من حقيقة رحابة الأفق الجديد وسعته بالصورة التي تسمح بإيجاد المزيد من الوظائف والفرص لمن يملك الرغبة والجرأة على اقتحام ميدانه للقيام بمهامه، خاصة في حال امتلاك المهارة اللازمة لذلك، حتى في ظل عدم توفر التأهيل المعرفي المبكر، ذلك أن المهام التي يحتاجها التخصص بثوبه الجديد، لا يمكن أن يختزل في شرط بعينه، فالدعم اللوجستي لصناعة الإعلام لا يتطلب على سبيل المثال ذات المهارة التي لا بد أن تتوافر لدى من يعمل بشكل مباشر في مواجهة الجمهور، أو من يعنى بالتصاميم والرؤى الفنية للمنتَج.


معادلة المهارة والمعرفة
إن مما يؤكد على وجود التفاوت في فهم صناعة الإعلام، وتسببه أحيانًا في إقصاء المستحِق، اختزال البعض في وقت مضى لمهنة الإعلام ووظائفه في مدى قدرة الفرد على صياغة الخبر، ومن ثم قدرة الخبر نفسه – بمقدار احتوائه على سمات القيم الخبرية – إلى الوصول إلى الجمهور، وعزز من هذه الحصرية في تحديد من هو الإعلامي، ومن هو غير ذلك، أن بعض المؤسسات الإعلامية المهنية، كانت تختبر المتقدمين للالتحاق بها في مدى التمكن من هذه المهارة تحديدًا، على الرغم من أن بعض جهات التوظيف كانت قد طورت – إبان فترة الإعلام التقليدي – قائمة لمجالات توظيف خريجي مؤسسات الإعلام التعليمية تجاوزت الثلاثين وظيفة، الذي لا بد وأن التوسع في نشاط الاتصال حاليًّا، وفي أفراد ممارسيه، الذي يكاد أن يشمل عددهم السواد الأعظم من سكان البسيطة، حرية بأن تبرهن بأن القائمة يجب أن تتجاوز هذا الرقم، وتعيد النظر في مسمياتها.
ومهما يكن من أمر فإن المهن الاتصالية كانت وستظل من أكثر المهن تنوعًا من حيث أشكالها في مختلف المجتمعات، فقد أدرك الإنسان ومن زمن بعيد، أهمية الاتصال، كنشاط بشري رئيس، في القيام بأدوارٍ محوريًة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه، سواء من خلال نقل المعلومات، عبر طرق وأساليب شبه بدائية “الشعر، الخطابة” من أجل توظيفها في تشكل الوعي وفقًا لأهداف محددة، ليس لخدمة المجتمعات ونموها فحسب، وإنما للتعبير ابتداءً عن الأفكار والمواقف برسائل مقصودة من شأنها أن تشكل رأي عام مؤيد وداعم.
ومع ظهور تكنولوجيا الاتصال الحديثة بدءً باختراع المطبعة، أصبحت إمكانية الوصول إلى جمهور عريض “الاتصال الجماهيري” يتجاوز الإعداد التي كان الأدوات الأولى “الاتصال الشخصي والجمعي”، تحققها، وصاحب كل ذلك نمو مطرد في نوعية المهن المتخصصة وأعدادها، ومع دخول البشرية الفضاء الرقمي، اتسعت دائرة المهن والتخصصات التي تتطلبه المزيد من الكفاءات البشرية لضمان عملية تشغيلها وإدارتها، فأتاحت المهن الجديدة مساحة شاسعة لتوفير العديد من الفرص للمبدعين وأصحاب المواهب الضرورية للأداء المهني الفعال.
وبقدر ما حظي تخصص الاتصال باهتمام أكبر، خاصة مع اتساع في وظائفه، بعد أن أصبح أحد أهم ابتكارات العصر، فقد باتت درجة تبنيه واستخدامه علامة نجاح فارقة لجميع التخصصات دون استثناء، وكان مما يبعث على القلق في هذه البيئة المتداخلة في النشاط الاتصالي بين التخصصات الأخرى، خشية فقدان تخصص أصيل “الإعلام” لهويته، وغياب شخصيته نتيجة خسارة بعض وسائله التقليدية لأشكالها أو مزاياها وطرق تقديمها، والواقع أنه توجس في غير مكانه، إذا تذكرنا التحذير الدارج بعدم الانشغال بالوسيلة على حساب الهدف، وكذلك تذَكُّر أن الإعلام دائمًا هو أحد أبرز أركان الاتصال الأزلية، وسيظل كذلك لارتباطه الوثيق بالحواس البشرية، بوصفه نشاطًا حيويًّا تحتاجه المجتمعات والدول دون استثناء.
هذا القول لا بد أن يذكر المتخصصين بأهمية الاعتناء بالإعلام أكاديميًّا ومهنيًّا ليوفر خدمته العريضة ليس فقط لنشر المعلومات بما في ذلك الأخبار لمحتاجيها بكافة أنواعهم؛ بل ولضمان التواصل الفعال بين الأفراد، وهو لن يتحقق بالصورة العميقة دون أن يؤدي وظائفه الأساسية بالأسلوب المهني الرفيع الذي يشمل نشر الأحداث، والإسهام في تقديم الحقائق وتشكيل الرأي العام على كافة المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
إن إدراك أهمية وظائف الإعلام، يوجب أن يتولى مهمة الحفاظ على صناعته والارتقاء به متخصصون متقنون للأدوار المطلوبة منهم في كل مسار من مساراته بدقة عالية، استنادًا في ذلك على ثنائيتي: “جودة المنتج، وضمان فاعليته”، وعليه فلا بد من الحذر من خطورة “رقرقة”، قيمة الإعلام، جراء اقتحام الكثيرين لممارسة بعض أدوار القائمين به، ذلك أن أساليب البعض منهم مشوهة، ولا ترقى إلى أن تندرج في الأشكال الإعلامية الصحيحة، وذلك نتيجة لعشوائية ممارستهم لوظيفة ذات ضوابط يجهلونها، وهو ما أدى إلى حدوث فوضى غير مسبوقة، وانتشار كم هائل من المعلومات المغلوطة والمضللة للمجتمعات.
ولعلنا في هذا الصدد ننوه إلى أن المتلقين للأشكال الإعلامية بشكل عام يتسمون بالذكاء، والقدرة على تمييز الغث من السمين، ولذا تبقى حقيقة وسم أية فرد بالإعلامي من عدمه، سمة لا يمكن نيلها بالتمني أو الرغبات؛ وإنما يمكن أن تتحقق من خلال إيمان الجمهور نفسه، بجودة ما ينشره صاحبه، فكم من ممارس ليس له من جهده سوى الجهد ذاته، وقد ينتهي بصاحبه إلى تقديم موادًا مبتذلة لا ترقى إلى أن تكون ذات رسالة أو قيمة. وهو ما يمكن التعرف عليه من خلال المتعطشين للأضواء الذين لم يترددوا في الخروج للجمهور بمواد سطحية، وفي أشكال غريبة رغبة في لفت الأنظار، دون أية اعتبار لانعكاس ذلك على صورهم الذهنية.
ومع ذلك فلقد كان من نتائج التوسع الهائل في استخدامات الاتصال؛ خصوصًا مع حدوث تقاطعات حتمية بين أدوار المستخدمين الجدد مع من كان يتولى في الأصل صناعة المواد الإعلامية، اجتهاد البعض من الممارسين الجدد في مهمة إيصال الخبر المجرد عبر أدوات جديدة في مقدمتها شبكات التواصل الاجتماعي، دون التزام حقيقي بقيمه ومعايير قيمته، التي على الرغم من أنها ميزة يكاد يستأثر بها أصحاب المهنة دون غيرهم، إلا أن حب الشهرة والحضور الاجتماعي أغرى الكثيرين في الانتماء العشوائي لمجال براق، خاصة في ظل غياب قوانين تشريعية وجهات حازمة تضبط هذا الجانب.
هذا القول يجب ألا يفهم على أنه دعوة للإقصاء أو حصر ممارسة الإعلام في فئة دون أخرى، ولكنه تأكيد على أهمية التأهيل والتقنين القادرَين على إيجاد بيئة إعلامية صحية تسهم في خدمة المهنة عبر كفاءات متمكنة وموثوقة، وهذا مطلب يقتضي إعادة ترتيب الميدان بالشكل الصحيح.
ولتحقيق هذا المطلب الجوهري، فلا بد من رصد كافة احتياجات التوجه الجديد بتفاصيله، وتحديد سبل توفير مادته بدقة، بما في ذلك الإمكانات والسمات المطلوب توافرها في العاملين في المهنة، وبقدر ما تقع المسؤولية بالدرجة الأولى على كليات وأقسام الإعلام الأكاديمية ومعاهده، إلا أن الاحتياجات في العصر الجديد أكبر من قدراتها، كما أن التخصصات ذات العلاقة باتت مطالبة بأن تقوم بالأدوار ذات الصلة الوثيقة بمجالاتها، نذكر منها على سبيل المثال كليات الحاسب الآلي، والفنون، واللغات.


الحاجة إلى إعادة التموضع
انطلاقًا من الدعوة إلى فهم طبيعة التخصص، فإنه آن الأوان أن يسلم المتخصصون في الإعلام بأهمية التعامل مع الوضع الراهن بموضوعية ومهنية تامة، بما في ذلك القبول بأن هناك حاجة إلى التنازل عن بعض الاختصاصات التي ألفوها أو استأثروا بها سابقًا لفترة غير قصيرة – بحكم هيمنتهم الغالبة على دائرة الاتصال إبان العصر التقليدي، وكذلك الاعتراف بأن تواجدهم في بعض الحقول ذات الصلة بمجالهم، هو أمر دعاهم له عدم توفر الكفاءات التي تلبيها آنذاك، وذلك لعدم ارتباط واهتمام تخصصاتهم الوثيق حينها بنشاط الاتصال، فكانت المؤسسات الإعلامية مضطرة إلى أن تجتهد في تأهيل الكفاءات في إطار حاجاتها فقط.
وكي يتضح المقصود أكثر، فقد كان من المسلم به أن يلجأ الجمهور وبعض المؤسسات غير الإعلامية، إلى وسائل الإعلام للإعلان أو نشر المواد التي تخصصهم، لعدم وجود بدائل لهم عنها، إذ كانت الوسائل الإعلامية شبه منفذهم الوحيد للوصول إلى العامة، وهي إشكالية تغلبوا عليها في العصر الرقمي من نوافذهم الرقمية حين تيسرت لهم بوفرة عالية في الفضاء الجديد، فغدا لكل مؤسسة موقعها الخاص بها على شبكة الإنترنت، واتجه الأفراد إلى شبكات التواصل لامتلاك حسابات شخصية قادرة على تمثليهم بشكل مباشر، فوفرت هذه المواقع والحسابات كل ما كانوا يحتاجونه من الوسائل الإعلامية التقليدية، خاصة أنها غدت مرتبطة ببعضها البعض في شبكة لا متناهية، يسهل الوصول إليها فورًا من شتى بقاع الأرض. وهنا يجب التنويه من خطأ نظرة قاصرة ترى أن فقدان وسائل الإعلام لهذه الخواص هو فقدان لكينونتها.
وعلى الرغم من أن القول بأن هناك احتكارًا لمنصة الإعلام في يد القائم بالاتصال، إلا أن ذلك القائم بالاتصال يفند هذه تهمة ولا على إطلاقها، فهو يرى أنه مرآة للمجتمع نفسه، بدليل أن مواد وسائله تعكس واقع ذلك المجتمع بغض النظر عن جغرافيته، وأنه صدىً لكل أحداثه، غير أنه لا يمكن قبول محاولات التفنيد تلك، حتى مع الاحتجاج بوجود مساحات مخصصة للجمهور على غرار زوايا “بريد القراء”، لأنها في الواقع كانت تخضع لتقنين “شبه مزاجي” يفرضه المشرف على سياسة التحرير، عدا عن أن تلك المساحات كانت محدودة جدًا مقارنة بحجم طلبات مشاركة القراء أنفسهم، مما يوجب تمكين البعض، وحرمان الغالبية من إيصال أصواتهم.
إن دخول معظم التخصصات الأخرى – إن لم يكن جميعها – في دائرة الاتصال بشكلها الجديد، هو دليل على تفكك بعضًا من هيمنة وسائل الإعلام في السابق على الفضاء السابق، وأصبحت حقيقة احتكار تخصص الإعلام لمعظم أدوات الاتصال الجماهيري لفترة غير قصيرة من الزمن جزءً من التاريخ، فلم يعد يتعذر على من كانوا يوسمون بـ “المتلقين” القيام بإيصال أصواتهم كما يشاؤون؛ وتحولوا في زمن قياسي إلى “مرسلين” يتمتعون بقدر عال من حرية التعبير، وامتلكوا مهنة “حارس البوابة”، ولا بد من الاعتراف أن بعضًا مما ما تم القيام به في تلك السلطة هو أقرب إلى التسلط الذي قاد وللأسف إلى وأد الكثير من القدرات والمواهب دون وجه حق، حين اصطدمت بحقيقة الأبواب الموصدة.


الخاسرون والرابحون في مهنة الإعلام
قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه في العصر الرقمي، هو هل خسرت وسائل الإعلام التقليدية مكانتها، أو وظائفها؟
الإجابة المباشرة عن هذا السؤال، هي أنه لا يمكن قبول حكم حدي في هذا الأمر، ذلك أن القول بالإيجاب أو النفي، يتعارض تمامًا مع الموضوعية التي تفرضها حقيقة أن هناك مزايا خاصة بكل نوع دون غيره، ولكي لا يتم تقرير الحكم على مجرد المفاضلة في عامل دون آخر مثل حجم الانتشار، أو سرعته، فهو – وإن كان ذا قيمة عالية – يظل قاصرًا عن توفير عوامل أخرى لا تقل أهمية عنه، كالصدق والدقة التي هي أصل الموثوقية في الطرح التي لا يمكن تصور غيابها في ما تنشره الوسائل؛ لاكتمال صورة المادة وحقيقتها.
والحقيقة أن المزج بين إعلام الماضي والحاضر بما تقتضيه الصناعة، هو الطريق الصحيح لامتلاك وسائل إعلام فعالة، وبالتالي فإن التحول الرقمي الذي أتاح للمحتوى الإعلامي الانتشار بسرعة واسعة وفي مختلف الوسائط، الذي تسبب في تراجع الحاجة للعديد من المهن القديمة، قد تسبب كذلك نتيجة اتسامه بكونه أكثر ديناميكية، ومرونة، وتفاعلية، في ظهور العديد من الوظائف والمهن الجديدة التي تتطلب مهارات متعددة وتكاملًا في الأداء.
كان من أبرز مظاهر تعدد المهن الإعلامية في عصر الإنترنت حاجة جميع المؤسسات والكيانات إلى المواقع الإلكترونية، وحسابات خاصة بها في سائل التواصل الاجتماعي، كما تمت إعادة ابتكار وسائل جديدة من رحم القديم، على نحو البودكاست الذي هو شكل مطور من أشكال البرامج الحوارية، كما تم تبسيط أشكال التقنيات الحديثة في إنتاج المحتوى، وجعلها متاحة للجميع بما في ذلك الأفراد، وهو ما جعل دور الممارس في الحقل الإعلامي يتجاوز في كثير من الأحيان مهمة واحدة، فقد أصبح شريكًا أساسيًّا في مهن متنوعة من بينها إنتاج الفيديوهات، والتصوير، والتحليل الإلكتروني للبيانات، وإدارة الحملات الترويجية على الإنترنت.
وفي هذا الإطار، فرض التفاعل المباشر مع الجمهور عبر المنصات الرقمية على المهنيين الإعلاميين أن يكونوا متعددي المهارات، بحيث يجمعون بين مهارات الكتابة والتحرير والتصميم، ويعني هذا الأمر باختصار أن العاملين في المجال غدو مترجمين للأفكار والقضايا، بالإضافة إلى تمتعهم بخبرة أولية على الأقل في التسويق الرقمي والوسائط الاجتماعية.
ليس هذا فحسب؛ بل إن من بين المهن الجديدة التي فرضها الفضاء الرقمي، وتتطلب المزيد من الاهتمام، ضرورة توفر خبراء في التدريب على استخدام الوسائل الرقمية، وكذا تحسين محركات البحث إلى جانب كيفية تطوير المهن التقليدية والإفادة منها، كما أن التداخل بين مختلف التخصصات يحتم اهتمامًا خاصًا في المؤسسات الإعلامية التعليمية، مما يعني أن محيط المهن الإعلامية أصبح مطالبًا بالتكيف وحاضرة لتلبية الاحتياجات الاتصالية في كافة الميادين.
ولا شك أن العناية بهذه الجوانب كفيلة برفع مستوى المهنيين في المجال، خاصة أن المهني الإعلامي في زمن الإنترنت بحاجة إلى التكيف مع التغيرات، وتطوير قدراته ليتمكن من العمل عبر منصات متعددة، و يحسن الابتكار والإبداع، ليظل قادرًا على إثراء المحتوى بشكل فعال وموثوق.

المهن الإعلامية في مفترق الطرق
في الوقت الذي اتضحت فيه معالم المهن الرئيسة في فضاء الاتصال الرقمي، وما أن استقرت معظم احتياجات الوسائل الرقمية، وتحددت مسمياتها ومهامها، حتى اقتحم الذكاء الاصطناعي هذا الميدان، فغدا منافسًا شرسًا لمعظم مهنه الرئيسة، غير أن الفارق في هذه المرحلة من التطور والتغيير، أن جميع التخصصات، أصبحت تواجه ذات التحدي، وأصبح التساؤل عن مستقبل مهنها قاسمًا مشتركًا بينها، أما يميز الإعلام وما يشابهه من الفنون، أن الحس البشري، سيبقى عاملًا حاسمًا في ضبط جودة منتجه، ذلك أن التجارب التي تم تطبيقها – حتى الآن – في توليد وإنتاج المواد الإعلامية عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، تبدو قاصرة في إيصال الرسائل مقارنة بما يقدمه الإعلاميون، وهو ما يستدعي – في حال الاستعانة بها، من خلال ما يمكن تسميته مجازًا بأخصائي الذكاء الاصطناعي – أن يتم أنسنتها بمهارة عالية، بما يجعلها إنسيابية في قدرتها على التغلغل دون أن تفسدها عبارات هي أقرب إلى تركيب آلي تعوزه المشاعر والإحساس.
هذا القول لا يقصد منه التقليل من إمكانات الذكاء الاصطناعي الهائلة في اختصار مسافات الإنجاز، مما يعني أن توظيفه يعد مهمًا في مرحلة تأسيس المواد، ورسم خرائط الطريق إلى الإنتاج، دون التسليم بكل ما تقدمه؛ إذ يجب أن يبقى للعقل البشري هيمنته، وعليه أن يتجنب الاعتماد على الآلة في صناعة الإعلام، بوصفه فنًا من الفنون.
لقد أحدثت التطورات التي طالت حقل الإعلام في العقود الأخيرة، تحولات كبيرة مكنت الجميع من ممارسة أدوار المتخصصين، وعلى الرغم من أن البقاء دائمًا للأصلح، إلا أن على من استهوته المهنة، أن يتنبه إلى أن المهن الإعلامية ليست مجرد وظائف، بل مسؤوليات اجتماعية وثقافية، كما أنها تتطلب وعيًّا، والتزامًا مهنيًّا يعد شرطاُ أساسًا في صلب المهنة، كما أن عليه أن يدرك أن صوته وصورته وكلمته قد تشكل وعي أجيال؛ بل وشخصياتهم، كما أنها تصنع اتجاهات ومواقف وولاءات لا يمكن التهاون بها، وبالتالي فهي من الأهمية بمكان إلى الحد الذي تحدث معه فارقًا في قضايا المجتمع.