يشهد العالم اليوم مرحلة مهمة من تاريخ الحضارة الإنسانية، تتميز بالتسارع التقني وثورة التواصل الاجتماعي والمعارف الرقمية، فأصبحت التقنية جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، تسهم في تشكيل حياته، وبناء أرائه ومعتقداته، كما أصبح أكثر انفتاحاً على ثقافات ومجتمعات مختلفة قد تؤثر عليه إيجاباً أو سلباً، وهذا ما نتج عنه مجتمع رقمي يستخدم التقنية في جميع مجالات الحياة من تعليم وترفيه وأعمال وخدمات، بالتالي أصبح يواجه العديد من التحديات والآثار المترتبة على استخدام التقنية.
وبظهور المجتمع الرقمي ظهر المواطن الرقمي، وهو الفرد الذي يتعامل مع التقنية ويلتزم بمعايير السلوك المقبولة عند استخدامها بما يحقق مصلحته وحمايته من أضرارها واحترام وتقبل المستخدمين لها، والتعلم والاستفادة من خدماتها، وبالتالي يخدم الوطن كونه مواطن رقمي صالح.
فلم تعد التقنية واستخدام الإنترنت مجرد رفاهية، بل أصبحت ضرورة في ظل عصر رقمي يتعامل مع جميع مجالات الحياة، حيث تشير (الهيئة العامة للإحصاء السعودية، 2019م) في التقارير والإحصاءات الصادرة عنها إلى أن متوسط عدد الساعات التي يقضيها الأفراد باستخدام الإنترنت في المملكة العربية السعودية في عام (2019م) 7 ساعات تقريباً، وأن عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة العربية السعودية 23.2 مليون فرد، ووصل عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى 25 مليون فرد.
ومع هذا الانتشار الواسع يظهر لنا كمجتمع بعض من يستخدم التقنية استخدامات سيئة تضر بالمجتمع والأفراد كظواهر الابتزاز والتنمر الإلكتروني، وسرقة المعلومات والبيانات والأموال، وبالتالي علينا مواجهة هذه الظواهر والتصدي لها، وزيادة الوعي لدى أفراد المجتمع بطرق وأساليب الحماية منها والتعامل الأمثل معها، وعقوبة وأخطار ممارستها.
وأصبحت الأسرة بشكل عام، والطفل بشكل خاص، يعيشون في بيئة افتراضية يحكمها الإنترنت، والألعاب الإلكترونية، والبرامج التليفزيونية، والهواتف الذكية التي تجعل الطفل أمام عالم افتراضي يشوش إدراكه ويؤثر في علاقته بالآخرين ويحوله إلى طفل رقمي Digital Child فسيطرت التكنولوجيا على عقولهم في شتى أشكالها وتفوقوا فيها عن الكبار.
وأدى تنوع تطبيقات الإنترنت واختلاف مهامها ووسائل التعامل معها خلال السنوات القليلة الماضية إلى تحولها لوسيلة جذب فئات متنوعة من البشر على اختلاف اهتماماتهم، فبعد أن كان استخدامه في السابق مقصوراً على الكبار وخاصة فئة الباحثين، انتشر في الوقت الراهن ليشمل شريحة كبيرة من الأطفال والمراهقين والشباب؛ هي الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت ومنهاFacebook,Twitter, YouTube, MySpace, وذلك لسهولة استخدامها ومرونة القيود المفروضة على الاشتراك فيها، إضافة إلى أن طبيعة الإنسان ورغبته في تكوين العلاقات مع أقرانه، فضلاً عن توفر وقت فراغ كبير في حياته، مع محدودية الفرص المتاحة له خارج المنزل للالتقاء بالآخرين، كانت عاملاً أساسياً في انضمام الكثير منهم لتلك الشبكات.
حماية الطفل
تعتبر حماية الطفل مسؤولية أسرية ومجتمعية، فلم تعد قاصرة على مجرد توفير المأكل والملبس والمسكن، أو تقديم خدمات صحية ومادية له، أو مجرد منع الضرر والإيذاء الجسدي، بل عملية وقائية، وتحصين نفسي ومعنوي وأخلاقي وإنساني في المقام الأول، بعد أن أصبحت شكوى عالمية تؤرق المجتمع الإنساني بأسره، وأصبحت من أخطر القضايا الشائكة التي تحتاج إلى استراتيجية وثقافة مجتمعية لإنجاحها، بالرغم من تأكيد دراسات عديدة في كثير من البلدان-حتى المتقدمة منها- أن الآباء والأمهات أنفسهم لا يزالون غير مدركين تماماً المخاطر التي يتعرض لها أطفالهم من عالم الإنترنت.
وتنص المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صدقت عليها كل دول العالم فيما عدا الولايات المتحدة الأمريكية والصومال، بالتزام الدول الأطراف باتخاذ التدابير التشريعية والإدارية الملائمة لضمان حماية الطفل، وتنص المادة التاسعة عشرة من الاتفاقية أيضاً على التزام الدول بحماية الطفل من أشكال الإساءة البدنية وإساءة الاستغلال بما في ذلك الإساءة الجنسية واستغلال الأطفال في المواد الإباحية، وفي مادته الثالثة يلزم البروتوكول الدول الأعضاء أن يغطي قانونها الجنائي جرائم إنتاج وتوزيع ونشر واستيراد وتصوير وعرض وبيع وحيازة مواد إباحية تتعلق بالطفل.
والأطفال بطبيعتهم يتأثرون بالأمور الإيجابية أو السلبية على حد سواء، ويمكن استمالتهم لأي جانب كان، لأنهم لا يمتلكون النضج الكافي الذي يمكنهم من اختيار الصالح دون غيره، ومن هنا يمكن التغلغل من قبل ضعاف النفوس أفراداً أو منظمات لاستغلال الأطفال سلبياً من خلال هذه الشبكة وبطرق متعددة بدءاً من محاولة التأثير على ثقافة الطفل وقيمه التي زُرعت بداخله منذ الصغر وصولاً إلى مخاطر العنف والاستغلال الجنسي سواء كان مباشراً عبر التواصل مع الطفل من خلال الشبكات الاجتماعية أو غير مباشر من خلال إمكانية الوصول إلى المحتوى الإباحي المنتشر على الشبكة.
وبما أن الطفل هو أحد أفراد المجتمع، ويتأثر ويتفاعل معه، تحتم علينا إعداده ليكون مواطن رقمي يتمكن من التعامل مع التقنية بشكل سليم، وتعريفه بالقواعد والضوابط والتوجيهات للتعامل الأمثل معها، بحيث يستفيد منها وتكون أداة تطوير بدلاً من أداة هدم وتدمير، فالمواطنة الرقمية تهدف إلى الاحترام والتعليم والحماية في ظل العصر الرقمي.
الإعلام والمحتوى الرقمي
أصبحت التربية في العصر الرقمي مهمة كبيرة مثقلة بالأعباء والأدوار والمسؤوليات الجديدة والمتغيرة، وربما الضغوط النفسية على الإعلام؛ حيث يتطلب منهم مواكبة هذا التطور التكنولوجي والرقمي ومواءمته مع تربية الطفل، مع الأخذ في الاعتبار التحدي الكبير في تربية الطفل بشكل عام، حيث يعتبر العصر الحالي هو عصر التعلم عبر الإنترنت؛ وبالتالي يتطلب تحديد دور الأسرة ودور الإعلام في تحقيق الأمن الرقمي للطفل في ضوء عصر الرقمنة للاستفادة من ذلك في عملية تربية وتعليم الطفل في المستقبل.
من هنا يظهر الدور المهم للإعلام في العصر الرقمي وهو التربية الرقمية للطفل والذي يعدّ مفهومًا جديدًا من مفاهيم التربية، وهذا ما يؤكد أن عملية التربية مستمرة ومقيدة وتخضع للتغيرات الحادثة في أي زمان وأي مكان.
ويستطيع الإعلام تقديم التربية الرقمية للطفل منذ سن مبكر من خلال مجموعة من العادات والتقاليد والقيم والمهارات والأعراف والمعارف وقواعد السلوك المتعلقة بالاستخدام والتعامل مع التكنولوجيا الرقمية الافتراضية والأفراد، مما يجعلها أداة جيدة لإنجاز المهمات والأنشطة التي يمارسها الإنسان على الجانب العملي والعلمي والاجتماعي في العصر الرقمي.
الآثار السلبية للمحتوى الرقمي
ففي ظل الانتشار المتسارع للمعطيات الرقمية وسهولة الوصول إليها، وفى ظل قلة الرقابة على استخدام الطفل لها، تظهر خطورة هذا الاستخدام وظهور العديد من التأثيرات السلبية على الطفل في مجالات مختلفة، ومنها:
على الجانب النفسي: عصبية الطفل والعنف في التعامل، تشويش الطفل وبعده عن الفطرة الطبيعية له نتيجة ما يقرأه على التطبيقات الرقمية، والهروب من الواقع، كما أن قلة الرقابة والمتابعة المستمرة والدائمة من قبل الأسرة على الطفل عند التعامل مع التطبيقات الرقمية قد يعرض الطفل إلى قضاء وقت طويل تجاه هذه التطبيقات مما يؤثر على علاقاته داخل الأسرة، كما قد يعرض الطفل إلى صور ومواقع إباحية تؤثر على حياته نفسياً حيث تشوش هذه الصور على فطرة الطفل، بجانب أن الطفل قد يعيش في الأوهام وزيادة عزلته واكتئابه وقلقه، فضلاً عن زيادة التعاطي مع الألعاب الإلكترونية العنيفة، وقد يزيد هذا العالم الافتراضي من الانطوائية وفقدان الخبرات الحياتية الواقعية.
ومن أخطر التأثيرات النفسية للتعامل مع التطبيقات الرقمية عبر الإنترنت على الطفل:
-العنف السيبراني Cyber violence
إن التعامل العشوائي مع الإنترنت من قبل الطفل قد يعرضه للعنف السيبراني، ما يؤدي لشعور الطفل بأنه منبوذ ووحيد مما يؤدى إلى شعوره بالاكتئاب.
-المهاجمة السيبرانية:
عن طريق الإرهاب النفسي أو التحرش من خلال الصور والفيديوهات العدوانية المعروضة عبر الإنترنت.
-التعصب الديني والعرقي والتشجيع على العنف:
إن مفهوم التلوث الثقافي يعني إضعاف القيم، تصارعها أو غيابها من خلال تقديم معلومات غير صحيحة ومشككة، ويشمل جملة من التهديدات للمعتقدات، من خلال التعصب الديني، والعرقي، إلى جانب التهديد الأخلاقي، المتمثل في انهيار النظم الأخلاقية، التي تشكل دعامة النظم الاجتماعية خصوصاً وأن شبكة الإنترنت تعج بالمواقع غير الأخلاقية والإباحية.
-التهديد والمضايقة والابتزاز:
قد يتعرض الأطفال إلى محتويات مزعجة، مُذلة، مُهينة، محرجة أو عدوانية في رسائل البريد الإلكتروني أو الدردشة، وتتحول غرف الدردشة إلى أماكن خطرة إذ لا يمكن أن نعرف هوية جميع المشاركين في المحادثة، لذا فمن السهل ابتزاز شخص ما أو مضايقته، فإذا تجاوز الأمر حده ينبغي إبلاغ الشرطة، وليس من الضروري أن يكون الطفل هو الضحية دائماً، بل يمكن أن يكون هو من يقوم بإرسال التهديدات لذا عليه أن يعرف بأن هذا الفعل غير مقبول ويعرض فاعله للملاحقة القانونية.
-التعرض إلى محتوى غير لائق:
يمكن أن يتعرض الأطفال إلى محتوى غير لائق بسبب انتشار محتويات إباحية وعنصرية وعنيفة، مشجعة على الانتحار وتعاطي المخدرات والكحول، فضلاً عن العثور على فيديوهات لشخصيات كرتونية تثير الخوف في نفوس الأطفال.
-التنمر السيبراني Cyber bullying:
وهو محاولة استغلال تقنية الاتصالات والمعلومات للوصول لأهداف إجرامية بحق الصغار والشباب عن طريق إرسال: تهديدات، ورسائل أو صور عدائية، والإفصاح عن معلومات شخصية وحساسة، أو تعمد استبعاد الضحية من مجموعة معينة على الشبكة، أو المضايقة، أو الإحراج، أو السخرية، أو الإهانة وتشويه السمعة، وذلك عبر استخدام الإنترنت ومن خلال المواقع الاجتماعية، وقد يسيء بعضهم إلى الطفل أو يعتدي عليه، حتى يشعر بالإحباط، وبفقدان احترام الذات وعدم الثقة بالنفس، ويمكن لأي طفل أن يفعلها بالآخرين، لأنه يشعر بأنه محمي وراء الشاشة.
وعلى الصعيد الاجتماعي: مع تغير الوضع في الماضي عن الآن، حيث كان كل أفراد الأسرة يلتقون حول التلفزيون في غرفة واحدة تجمع كل أفراد الأسرة ويتبادلون الحديث معاً، أما الآن مع انتشار الأجهزة الرقمية جعلت الطفل في عزلة عن المحيط الاجتماعي وقلة فرص التفاعل الاجتماعي والحوار، مما يقلل من دور الأسرة في تنمية مهارات التواصل والتعبير اللغوي والمناقشة الجادة.
وبالتالي يصبح الطفل متلقي سلبي تجاه المعلومات، وتتباعد المسافات بين أفراد الأسرة ويقل دور الأسرة في نقل القيم والأفكار والمبادئ الأخلاقية للطفل؛ مما يخل بدور الأسرة أثناء التنشئة الاجتماعية للطفل.
أما النمو العقلي للطفل: فيؤدي سوء استخدام التطبيقات الرقمية الحديثة المتصلة بالإنترنت إلى إصابة الأطفال بمتلازمة الإنهاك المعلوماتي، وهذا نتيجة لكثرة المعلومات التي تعرض على الطفل مما يرهق ذهنهم ويقودهم إلى الانعزال، وقد يؤدي تخزين المعلومات على هذه الأجهزة وتدفقها إلى فقد الطفل قدرته على التركيز، وعلى الرغم من ذلك فيحتاج الطفل إلى مهارات ذهنية عالية في هذا العصر ولكن يحتاج أيضاً إلى صيانتها وتنميتها، بجانب ضعف مستواه التحصيلي وزيادة نسبة التشتت وقله الانتباه، فضلاً عن التلفظ بألفاظ بذيئة.
وبالنسبة للجانب الجسمي والصحي: فبينت العديد من الدراسات والبحوث عن التأثيرات السلبية التي يسببها استخدام الأجهزة الرقمية المتصلة بالإنترنت والتي فيها الإجهاد البصري، وصداع وإجهاد جسمي وقلة النشاط الجسدي، وزيادة السمنة وضعف العضلات نتيجة لقلة الحركة وانحراف العمود الفقري.
وفي ضوء العرض السابق لمخاطر استخدام التقنيات الرقمية الحديثة فقد شكلت مرحلة الطفولة تغير أيضاً، مع تغير اهتمامات الأطفال وألعابهم وطرق تلقيهم للمعلومة، حيث وفرت لهم التقنية الرقمية فرصاً أكبر في الوصول إلى المعلومة واللعب المفيد وتنمية الهوايات والمهارات ولكن في المقابل للتفاعل الرقمي مخاطر كبيرة على سلامة الأطفال وخصوصيتهم أحياناً، إذ زادت فرص تعرضهم للمحتوى غير اللائق (الصور الجنسية والإباحية والعنيفة والمواد العنصرية والتمييزية وخطاب الكراهية والمواقع التي تروج لسلوكيات غير صحية مثل إيذاء النفس والانتحار….)، بالإضافة إلى التنمر والاستغلال والتحرش والاعتداء الجنسي، وفتحت هذه التقنية قنوات جديدة للاتجار بالأطفال، وابتكرت وسائل لإخفاء تلك المعاملات من سلطات القانون.
المسؤولية الرقمية للإعلام
إن بناء شخصية الطفل في العصر الرقمي يتطلب الاعتماد على بنية بيئية متفقة مع التطور العالمي والانفجار المعرفي وتسارع المعلومات العالمية؛ وبالتالي فإن البيئة التربوية المطلوبة تحتاج إلى كفاءة وقدرة على الأداء الأمثل والإتقان والإخلاص في التعامل مع البيئة التكنولوجية الجديدة والسعي لتطويعها لمنفعة الطفل بهدف تعلم الطفل وإثراء تفكيره وثقافته وهذا يمثل المسئولية الرقمية للإعلام تجاه الطفل، حيث أن الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة يتميز بقدرته الكبيرة على استيعاب المفاهيم المرئية الحديثة ويتفاعل بطريقة إيجابية وسريعة عند التعامل مع تكنولوجيا العالم الرقمي بكافة أشكالها المتعددة، ويظهر ذلك في السلوك الرقمي للطفل؛ بما يحقق السلامة الرقمية، ويحتاج الإعلام في ظل هذا العصر إلى استغلال طاقات الأطفال وتطويع التكنولوجيا وفق حاجات الطفل ورغباته وتطلعاته، وتلبيه حاجات الطفل على حسب مظاهر نموه المختلفة جسمانياً، وعقلياً، واجتماعياً، ونفسياً.