في عالمنا اليوم، يبدو أن الكلمة قد تراجعت أمام زحف الصورة، وكأننا نشهد صراعًا قديمًا يتجدد.
فبينما كانت الكلمة، في بلاغتها وعمقها، هي سيدة الموقف عبر العصور، أصبحت الصورة في عصرنا الرقمي أكثر حضورًا وأسرع وصولاً.
هل انتهى زمن الكلمة المكتوبة والمنطوقة؟ أم أن هذا التنافس الظاهر ليس سوى وجه آخر لرحلة تطور واحدة، بدأت بالصوت ثم انتقلت إلى الرمز، لتصل إلى عصر يمتزج فيه كل شيء؟
هذا المقال يستكشف رحلة الاتصال الإنساني من بداياته البسيطة، مرورًا بتحولاته المذهلة، ليؤكد أن جوهر الكلمة يبقى ثابتًا، مهما تغيرت أشكال الصورة.
تاريخ الاتصال الإنساني
في البدء، كانت الكلمة شفوية منطوقة، عبر مناداة صوتية تتردد، وعلامات مضيئة تنير، ودقات أبواق وطبول تضج في سكون الحياة.
كانت الخطب في أسواق العرب القديمة مثل سوق عكاظ، والحكايات الشفهية التي كانت تنتقل من جيل إلى جيل للحفاظ على التاريخ والقصص، خير شاهد على هذه المرحلة.
وقد تناول “والتر أونج” في كتابه “الشفوية والكتابية: تكنولوجيا الكلمة” (1982م) هذا التحول العميق من الثقافة الشفوية إلى المكتوبة، موضحًا كيف أن الكتابة غيَّرت من طريقة تفكير الإنسان وتنظيمه للمعرفة.
ثم أصبحت الكلمة خطية مكتوبة برموز اللغات المختلفة على الرقاع والجلود، ثم على جدران المعابد والدور.
ظهرت الكتابة الهيروغليفية على جدران المعابد المصرية في الألفية الرابعة قبل الميلاد، وكُتبت الملاحم الشعرية مثل الإلياذة والأوديسة على لفائف البردي في القرن الثامن قبل الميلاد.
ما لبثت الكلمة في منتصف القرن الخامس عشر أن أصبحت مطبوعة على الأوراق بفضل اختراع المطبعة على يد “يوهانس غوتنبرغ” حوالي عام 1440 ميلادية، الذي أحدث ثورة في نشر المعرفة.
ثم تطورت لتصبح منطوقة عبر الأثير (الإذاعة)، حيث كانت خطابات قادة العالم تصل إلى الملايين، وشكلت برامج الإذاعات العربية وعي جيل بأكمله منذ بداية بثها في المنطقة العربية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
بعد ذلك، أصبحت الكلمة مرئية بدون صوت عبر الشاشات (السينما الصامتة) مع فيلم “الرحلة إلى القمر” عام 1902م، ثم مرئية ومسموعة عبر الشاشات السينمائية مع فيلم “مغني الجاز” عام 1927م، ثم تطورت لتصل إلى الشاشات الصغيرة (التلفزيون) الذي أصبح أداة رئيسية للأخبار والترفيه في كل بيت مع بداية بثه التجاري في الولايات المتحدة الأمريكية قبل بداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
لقد أكد “مارشال ماكلوهان” في كتابه الشهير “الوسيلة هي الرسالة” (1967م) أن طبيعة الوسيط نفسه “سواء كانت الكلمة المطبوعة، أو الإذاعة، أو التلفزيون” لها تأثير أكبر على المجتمع من المحتوى الذي تحمله، وهو ما يُفسر التحولات الكبرى التي شهدها الاتصال الإنساني.
ثبات الجوهر في عالم متجدد
في كل مرحلة من هذه المراحل، كان الاتصال يجد شكلًا جديدًا ليظهر به، لكنه لم يتخلَّ عن جوهره، فمهما كانت الوسيلة – من الطبل البدائي إلى الواقع الافتراضي – يبقى الإنسان ساعيًا للتعبير عن مشاعره، ونقل أفكاره، وتوثيق تاريخه، وهذا هو ما يجعل المعاني العميقة للعدل والحرية والجمال ثوابت محلقة فوق كل التحولات، لأنها تجسد روح الاتصال الإنساني الحقيقية.
وعلى الرغم من كل هذه التحولات، يبقى المعنى الإنساني العميق للعدل والحرية والجمال محركًا أساسيًّا للإبداع الإنساني عبر العصور.
وفي هذا السياق، يشير “ريتشارد ماير” في نظريته عن التعلم متعدد الوسائط (2001م) إلى أن الجمع بين الكلمات والصور يعزز الفهم والتذكر، مما يؤكد أن العلاقة بينهما ليست صراعًا، بل تكاملًا.
وفي العصر الحديث، أظهرت دراسات مثل تلك التي قام بها “آدم ألتر” في كتابه “لا يقاوم” (2017م) كيف أن التصميم المرئي (الصورة) يؤدي دورًا رئيسيًّا في جعل التكنولوجيا جذابة ومسببة للإدمان.
فكما يرى “إرنست غومبريتش” في كتابه “الصورة والعين” (1982م)، فإن الصورة ليست مجرد انعكاس للواقع، بل هي بناء ثقافي يُشكّل طريقة فهمنا للعالم، وهو ما يُعزز فكرة أن الصورة أداة قوية في يد الإنسان لنقل المعنى، تمامًا مثل الكلمة.
إن تطورات الأحدث في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، كما يوضح الباحثون في مجلة “ساينس” في مقال “الجيل القادم: كيف يمكن أن يغير الذكاء الاصطناعي التوليدي طريقة تواصلنا” (2023م)، تُظهر أن الكلمات والصور لم تعد مجرد أدوات للتعبير، بل أصبحت موادًا خامًا يُمكن للآلة توليدها.
ومع ذلك، تبقى قدرة الإنسان على توجيه هذه الآلة وفهم المعاني العميقة التي تنتجها هي العامل الحاسم، فالإنسان وحده من يملك القدرة على إضفاء قيمة على ما يتم إنتاجه.
في نهاية هذه الرحلة عبر تاريخ الاتصال الإنساني، يتضح أن الصراع بين الكلمة والصورة ليس سوى وهم، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، أداتان في يد الإنسان للتعبير عن ذاته وعالمه.
لقد تغيرت الوسائل والمنصات، من جدران الكهوف إلى شاشات الهواتف الذكية، لكن الغاية بقيت واحدة: السعي الدائم لنقل المعنى.
إن التكنولوجيا بكل ثوراتها، لا تملك القدرة على صناعة القيم، بل هي مجرد وعاء يحملها، ويبقى الإبداع الحقيقي كامنًا في قدرة الإنسان على استخدام هذه الأدوات ليرسخ قيمه الخالدة، ويؤكد أن ثوابت الروح البشرية محلقة دائمًا فوق كل التحولات المادية، لتظل مصدر إلهام لا ينضب.
المراجع:
* ماكلوهان، مارشال. (1967م). الوسيلة هي الرسالة: جرد للآثار. نيويورك: راندوم هاوس.
* أونج، والتر ج. (1982م). الشفوية والكتابية: تكنولوجيا الكلمة. لندن: ميثيون.
* غومبريتش، إرنست هـ. (1982م). الصورة والعين: دراسات في سيكولوجية التمثيل التصويري. لندن: فايدون برس.
* ماير، ريتشارد إي. (2001م). التعلم متعدد الوسائط. كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج.
* ألتر، آدم. (2017م). لا يقاوم: صعود التكنولوجيا المسببة للإدمان والعمل من أجل إبقائنا مدمنين. نيويورك: بنجوين برس.
* مجلة ساينس. (2023م). الجيل القادم: كيف يمكن أن يغير الذكاء الاصطناعي التوليدي طريقة تواصلنا. المجلد (382)، العدد (6673).