يُعدُّ الإعلام أهم أداة من أدوات القوة الناعمة، ويمكن وصفه بأنه الذراع الأقوى للقوة الناعمة، ولذلك فإننا نرى بأن الدول المتقدمة تعمل على تسخير هذا الجهاز القوي وتوجيهه نحو كل ما يحقق مصالحها الداخلية والخارجية.
ولكن ما القوة الناعمة؟ وما العلاقة بين هذا المصطلح وبين الإعلام؟ وما التأثيرات الناتجة من تلك العلاقة؟ وهل توجد قوة صلبة تقابل هذه القوة الناعمة؟
بما أن مفهوم القوة الناعمة يُعدُّ حديثــًا نسبيـًّا، فإن الأسئلة الآنف ذكرها بالإضافة إلى عدد كبير من الأسئلة الأخرى التي يتم طرحها من قبل مـَن لم يسمع بهذا المصطلح سابقًا ستتم الإجابة عنها في سلسلة من المقالات، نبدأها بهذا المقال.
مفهوم القوة الناعمة
إن قدرة الشخص أو الدولة في التأثير في سلوك الطرف الآخر، وجعله يتبنى ما يريده الطرف الأول تدل على أن الطرف الأول يمتلك قوة، وبشكل عام فإن هذا التأثير يمكن أن يحدث من خلال ثلاث وسائل، هي:
1-الإكراه والتهديد.
2-التحفيز من خلال دفع الأموال.
3-الجذب من خلال أفعال لا تحمل توصيات مباشرة، وهي ما تسمى بعملية التأثير في سلوك الآخرين من خلال القوة الناعمة.
إن القوة الناعمة هو مصطلح صاغه الدبلوماسي والأكاديمي الأمريكي البروفسور جوزيف ناي، الذي تولى عدة مناصب أبرزها مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية والدولية، كما عمل في المجال الأكاديمي – أيضًا – بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية.
في سنة 1990م، ألف البروفسور ناي كتابًا بعنوان: “حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية”، وذكر في هذا الكتاب مصطلح القوة الناعمة لأول مرة، حيث قال: إنه عندما تقوم دولة بجعل دول أخرى تريد ما تريده تلك الدولة، فإن هذا يسمى بالقوة الناعمة للدولة.
وعلى النقيض فإن هناك ما يسمى بالقوة الصلبة، وهي تعني إصدار الأوامر للدول الأخرى لفعل ما تريده الدولة المستخدمة لتلك القوة، ويمكن اعتبار استخدام القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية أوضح مثالين للقوة الصلبة أو الحادة كما يسميها البعض.
ومن هنا يمكن القول: إن القوة الناعمة هي قدرة التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج المرادة، أو القدرة على جذب الآخرين من دون إكراه، وبكلمات أبسط فإن القوة الناعمة هي القدرة على الفوز بقلوب الآخرين.
وفي سنة 2004م، اُستخدم مصطلح القوة الناعمة بشكل واسع جدًّا وغير مسبوق من قبل السياسيين والإعلاميين بالإضافة إلى الباحثين في مجال العلوم السياسية، وذلك بعد صدور كتاب آخر لصاحب المفهوم والذي حمل عنوان: “القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، ولا نبالغ حين نقول: إنهذا المصطلح قد تحول إلى مصطلح علمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ومن جدير بالذكر بأنه قد ظهر مصطلح آخر متعلق بعلم السياسة والعلاقات الدولية، حيث يشير المصطلح إلى عملية المزج والدمج بين استخدام كل من القوة الناعمة والقوة الصلبة في آن واحد وذلك من أجل تحقيق الأهداف المرجوة وسمي ذلك بـ”القوة الذكية”، ومن أبرز الأمثلة على استخدام القوة الذكية بين الدول هو ما يتمثل في السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع الملف الكوري الشمالي، فمن ناحية تفرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية على كوريا الشمالية بالإضافة إلى التهديد الدائم بالرد العسكري المناسب متى ما تطلب الوضع، وفي نفس الوقت فإن الحكومة الأمريكية تروج على الدوام بأنها تبادر دائمًا بطلب التفاوض وإعادة الحوار بين البلدين.
أدوات القوة الناعمة
تؤدي القوة الناعمة دورًا محوريـًّا في تعزيز سمعة الدول واحترامها بين الدول والشعوب الأخرى على حد سواء، وذلك من خلال الاستخدام الصحيح والمثالي لأدوات القوة الناعمة، فما تلك الأدوات التي تعمل على رسم الخطوط الرئيسية لإستراتيجيات الدول في المجتمع الدولي؟
يُعدُّ الإعلام أحد أهم وأخطر أدوات القوة الناعمة في هذا العصر وذلك بشكليه التقليدي والحديث، فمن خلال وسائل الإعلام – خاصة وسائل التواصل الاجتماعي – يمكن التأثير بشكل إيجابي أو سلبي في المتلقي، ومن السهولة بمكان فرض آراء معينة على مستقبل المعلومة إذا ما تم دراسته سلوكيًّا ونفسيًّا، ومن هنا يتبين أن الإعلام كأداة من أدوات القوة الناعمة يمكن استخدامها لبناء المجتمعات، كما يمكن استخدامها لهدم دول وأمم كما هو حاصل حاليًا من نشر للتطرف من خلال وسائل إعلام تتبع لحكومات ومنظمات وأشخاص أيضًا، وبالتالي فإن الإعلام سلاح ذو حدين كما هي القوة الناعمة، وسيتم التطرق لهذا الموضوع بالتفصيل في الجزء الثاني من هذه السلسلة.
تُعدُّ السياسة الخارجية للدول – أيضًا – من أبرز وسائل القوة الناعمة في مجال العلاقات الدولية، فهي وسيلة مهمة لزيادة النفوذ العالمي لأي دولة وبخاصة فيما يتعلق ببناء التحالفات الاقتصادية والعسكرية وغيرها. فكلما اتصفت السياسة الخارجية لأي دولة بالاتزان والذكاء السياسي، كلما استطاعت جذب عدد أكبر من الدول في صفـّها، وبالتالي تفوز بدعم دولي في عدة مجالات مثل الموافقة على القرارات الدولية التي تتقدم بها الدولة أو الحصول على التصويتات الخاصة باستضافة الأحداث العالمية الرياضية والثقافية والاقتصادية.
ويُعدُّ العمل الإنساني وتقديم المساعدات الخارجية من أدوات القوة الناعمة التي ترتبط بشكل مباشر مع الشعوب قبل الدول، فهذا النوع من المشاريع التنموية تعمل على إيجاد تأثير قوي من قبل الدول المانحة للدول والشعوب الممنوح لها، وتعزز من سمعة الدول المانحة على المستوى العالمي وترسخ من محبة الشعوب كافة، كما تعمل على فتح أبواب شراكات قوية مع المؤسسات الخيرية غير الحكومية، مما يؤدي إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة لجميع دول العالم.
كما تُعدُّ ثقافة أي بلد أو شعب ذراعًا مهمًا من أذرع القوة الناعمة، كونها تجذب العديد من الأفراد والشركات العالمية، مما يؤدي إلى جذب الدول الأخرى لعقد اتفاقيات وشراكات تعود بالنفع في الجانب الاقتصادي، وتشمل الثقافة جوانب عديدة مثل اللغة والطعام والسياحة والتراث والعادات والتقاليد والفنون بجميع أشكالها.
فاللغة هي الوسيط وعامل الجذب بين الناس، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين أو حتى أشخاص عاديين، وهي جسر التواصل بين الحكومات والشعوب، فعلى سبيل المثال؛ نرى أن قوة اللغة الإنجليزية أوصلتها لأن تكون هي لغة العلم والسياسة والتكنولوجيا في العالم، كما أن سحر اللغة العربية وتفردها جذب عددًا كبيرًا من غير المتحدثين بها، وأيقنت بعض الدول – خاصة في شرق قارة آسيا – بأن اللغة العربية هي البوابة الرئيسة للدخول إلى عالم الاستثمار مع الدول العربية، فعلى سبيل المثال تمَّ استحداث مشاريع ضخمة وغير مسبوقة لتعليم اللغة العربية في كوريا الجنوبية، كما ارتأت الصين بأن اللغة العربية هي المفتاح الذي يمكن استخدامه لنشر الثقافة الصينية في الوطن العربي، حيث إن هذا التبادل الثقافي المرتبط باللغة ليس وليد الأمس القريب، فاللغة العربية ربطت العرب بشعوب الهند والصين وذلك منذ القرن السابع الميلادي.
ويُعدّ الطعام أو ما يسمى بثقافة الأكل من أهم وسائل الجذب، وذلك لأن هذه الثقافة تعدُّ من النوادر التي يمكن اعتبارها اهتمامًا مشتركًا بين جميع الناس، فمن غير المستغرب أن يكون أول هدف للمسافر إلى بلد معين هو تعرّف ثقافة هذا البلد من خلال أطباقه المحلية الأصيلة، ومن غير المستغرب أن ترى مجموعات من الناس تتكبد عناء السفر من أجل تذوق “البيتزا” في إيطاليا أو “البرياني” في الهند.
وقد أكد التاريخ بأن الفن بجميع صوره من شعر وأدب ورسم ونحت ودراما وسينما ومسرح وغيرها، يُعدُّ أحد أدوات القوة الناعمة المهمة لأي دولة، فقد ترسخت اللهجة المصرية في أذهان العرب من خلال الدراما والسينما المصرية، كما أن باريس تتبادر إلى الذهن بمجرد النظر إلى لوحة “الجيوكاندا” أو “الموناليزا” على الرغم من أن رسامها إيطالي!
لذلك فإن الدول المتقدمة دائمًا ما تركز على تنوع العنصر الثقافي بها من خلال الاهتمام بنشر الثقافة المحلية، بالإضافة إلى قبول الآخر والتعايش مع ثقافته ما دامت لا تتصادم مع ثقافة البلد.
كل ما سبق ذكره من أدوات بالإضافة إلى أدوات أخرى مثل السياحة والرياضة وغيرها تعزز من القوة الناعمة للدول، وتضيف لها رصيدًا قويًا لا يقل أهمية عن القوة الصلبة لتلك الدول.