سبق أن أشرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة إلى أن الأزمة الصحية التي اجتاحت العالم قد أعادت للواجهة مسألة وضع الدول العربية في مجال اكتساب الرقمنة والعمل بها في وقت الرخاء، كما في غضون الظروف الاستثنائية مثل تلك التي فرضتها جائحة (كوفيد – 19).
بالإضافة إلى ما رسخته ثقافة الرقمنة من تجاوب ملحوظ في مجالي التعليم والعمل عن بُعد، حولت الجائحة كل النشاطات إلى ورشات رقمية كبرى أتاحت:
ج-البرمجة الافتراضية للفعاليات الثقافية:
عملت الهيئات القائمة على الشأن الثقافي في الدول العربية في سياق جائحة كورونا على غلق كل دور العرض وقاعات السينما والمسارح وكذا المتاحف، وهذا لمنع انتشار الفيروس وتفادي الإصابة بالعدوى.
وقد كان لهذه الإغلاقات الكاملة للمؤسسات الثقافية والفنية آثار على توسيع مجالات التكنولوجيا الرقمية في المسرح والسينما والأدب والموسيقى والرسم، وكل التظاهرات الفنية التي من شأنها اختزال ديناميكية الفعل الثقافي.
هكذا لم يمنع الفيروس التاجي من تنظيم النشاطات الثقافية وإحياء التظاهرات الفنية التي كسرت روتين الحجر الصحي ورتابة الحياة التي ألقت بظلالها على جميع المناحي.
في هذا الإطار أطلقت جمعية الثقافة والفنون في مدينة جدة السعودية مبادرة حملت شعار “الثقافة في قلب الحدث”، وقد كان هدف السلطات السعودية من هذه المبادرة نشر ثقافة القراءة والفن، وبناء أكبر محتوى صوتي عربي لإحياء التراث والترفيه لدى الجمهور في عز الأزمة الصحية للجائحة([i]).
وقد كان للمهرجانات السينمائية العربية نصيب من هذا البثّ الإلكتروني، حيث أسهمت وسائل التواصل الرقمية في إنجاح مهرجان القاهرة للفيلم القصير “رؤى” في نسخته الثالثة كنموذج عربي ثقافي آخر للعمل الفني الرقمي الذي تحدى كورونا بطريقة إيجابية، وحول عروضه الجماهيرية لأول مهرجان افتراضي في مصر والعالم العربي، حيث تمَّ تقييم (47) فيلمًا جرى ترشيحها للمسابقات في فئات: “العمل الأول” و”الروائي” و”التسجيلي”.
وقد تمَّ التحكيم عبر تقنية التواصل المرئي عن بُعد، وهو ما سمح لأعضاء اللجنة من متابعة الأعمال المشاركة عن بُعد ونقدها وتتويج أحسنها بجوائز المهرجان([ii]).
على هذا النحو مكنت الثقافة الرقمية الفنانين والمثقفين من اكتساب المهارات الرقمية الجديدة وتطوير مواهبهم وزودتهم علاوة على ذلك بمهارات التفكير النقدي لِفَهم التأثير الأوسع للتكنولوجيات في الثقافة والحياة برمتها([iii])، كما سمحت هذه الوسائط المستحدثة – أيضًا – بتوسيع قاعدة الجمهور المتلقي للمواد الثقافية وتأسيس أشكال مختلفة من النفاذ إلى هذه المضامين والتفاعل معها، الأمر الذي أسفر عن علاقة جديدة مع الجمهور الذي انتقل من آلية التلقي كآلية ذهنية تقوم على التأويل إلى الاستخدام باعتباره آلية التفاعل مع المضمون من خلال التقييم والتعليق والمشاركة مع الآخرين والتخزين… إلخ([iv]).
وضمن البـُعد العلائقي والاجتماعي لمستخدمي الشبكة، انتشرت مواد ثقافية كثيرة في ظل الوباء مثل الأيام الافتراضية للفيلم القصير في الجزائر، هذا بالإضافة إلى العدد الهائل من النتاجات الموسيقية العربية الجديدة والتراثية، وكذا مقترحات الإصدارات الجديدة في مجال الكتاب الرقمي التي تمَّ بها الاستعاضة عن تأجيل معارض الكتاب الدولية في كثير من العواصم العربية، مثل: “الرياض والدوحة والجزائر وتونس والرباط”، وغيرها من المعارض التي كانت تستهوي القارئ العربي وتمدّه بجديد الثقافة بكل ألوانها.
بهذه الممكنات التواصلية الحديثة، أرست الإنترنت تقاليد جديدة في تفعيل الشأن الثقافي في ظلِّ الأزمات، ووفرت بذلك مزايا تجديد نبض الحياة الذي أوشك الفيروس على القضاء عليه، كما سمحت بتعدد المواضيع وتباين أزمنة تلقيها وهو ما أسهم بدوره في التخفيف من وطأة ثقل الأزمة.
على هذه الشاكلة تعاظم دور التكنولوجيا في إنعاش كثير من القطاعات في زمن الجائحة لعل أهمها:
د-إعادة ترتيب أولويات السياحة في العالم العربي:
ما من شك في أن السياحة كانت من أكثر القطاعات تضررًا من جائحة كورونا، بسبب الإجراءات الاحترازية التي فرضت غلق كل الحدود الجوية والبرية والبحرية بين الدول وإلغاء جميع الرحلات التي كانت مبرمجة قبل انتشار الفيروس، وقد كان لهذه القرارات الإلزامية آثارها الإيجابية على انتعاش السياحة الداخلية وبلورة رؤية جديدة لمفهوم “الجذب السياحي المحلي”([v]).
وقد تمخض عن هذه الرؤية الجديدة لقطاع السياحة تبني إستراتيجيات ومخططات تسويقية أسهمت فيها الرقمنة بشكل كبير، حيث أعادت ترتيب الأولويات من خلال التركيز على الترويج لأماكن لم يسبق للسائح العربي زيارتها.
وتحقيقـًا لهذا المسعى، قامت وزارة السياحة السعودية ضمن (رؤية المملكة 2030م) بإطلاق برنامج خاص لاكتشاف الوجهات السياحية الداخلية، لتغطي معظم نقاط الجذب السياحي في تنوع هائل للأنشطة والفعاليات التي سيتمتع من خلالها السائح باكتشاف الطبيعة الساحرة والتنوع السياحي والعمق التاريخي والثقافة السعودية، من خلال ما تجود به مناطق كثيرة كتبوك في أقصى الشمال التي حباها الله بأودية خصبة ومناطق رملية وتشكيلات صخرية متناهية الجمال، هذا إضافة إلى سحر وهدوء شواطئها والتي تشكل استثناءً قلما يتكرر مثل شواطئ أملج وينبع.
كما شمل الترويج الإلكتروني السياحي مناطق أخرى مثل مدينة الملك عبد الله الاقتصادية بشاطئها الخلاب وتنوع أنشطتها الترفيهية، وكذا مدينة جدة بتاريخها وجاذبيتها، وصولاً إلى مرتفعات عسير وقمم جبال أبها الشامخة بتراثها وثقافتها وفنونها.
بهذا التنشيط الإلكتروني للسياحة الداخلية، تتوقع المملكة أن يتمَّ انتعاش السياحة المحلية بعد كورونا، وأن تتغير رؤية المواطن السعودي لقطاع السياحة الذي ظلَّ إلى وقت قريب مقصورًا على فكرة السفر إلى الخارج.
فحسب بعض الإحصائيات، يبلغ إنفاق السعوديين على السياحة حوالي (44) مليار ريال سنويـًّا، منها أكثر من (69%) تنفق على السياحة الخارجية مقابل (31%) فقط توجه إلى السياحة المحلية([vi]).
وقد وضعت هذه الأرقام المواطن السعودي ضمن تصنيف الأعلى إنفاقًا على مستوى العالم، حيث تشير التصنيفات الأخيرة إلى أنه الثالث عالميًّا من حيث الإنفاق سياحيًّا، وهي الأموال التي تصب في مصلحة البلدان السياحية المستقطبة على الرغم من الإمكانات والطاقات التي تتمتع بها المملكة في هذا المجال.
لقد ألزم الوباء السلطات السعودية على غرار كثير من الحكومات العربية بضرورة توظيف التكنولوجيا للاستثمار في إعادة الاعتبار للوجهات السياحية المحلية التي تجذب هواة الاطلاع على تاريخ البلدان والتعرف على جمال الطبيعة واكتشاف المواقع المتنوعة والسياحة الترفيهية والبيئية التي تسمح بدورها بانتعاش قطاعات أخرى كقطاع الصناعات والحرف وكذا مراكز التسوق والمتاحف، وغيرها من النقاط التي تجذب السياح المحليين في موسمي الاصطياف والإشتاء على حد السواء.
هكذا وفرت التكنولوجيات الرقمية الجديدة للسياحة الداخلية فرصًا ثمينة للانتعاش والنهوض من جديد، وهو ما تبلور في توجه كثير من الحكومات العربية مثل تونس التي تسهم فيها السياحة بنسبة (8 – 14%) من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد التونسي، وهو ما فرض على السلطات المحلية في ظلِّ الجائحة تكثيف الجهود بتجاوز الانكماش الذي شهده القطاع بالتركيز على السياحة المحلية بهدف إضفاء الحيوية على القطاع من جهة وتمكين المواطن التونسي من تخفيف ضغوطات الحجر المنزلي الذي استمر طويلاً([vii]).
وعلى نفس النهج سارت دول عربية كثيرة منها المغرب والجزائر والكويت والبحرين ولبنان الذي ركز على إعادة الاعتبار للآثار التاريخية في بعلبك وجبيل وكل المواقع التي رسمت فيها الطبيعة لوحات خلابة تأسر الزائر.
كما أتاحت الوسائط الرقمية الجديدة – أيضًا – جولات افتراضية في عدد من المتاحف والمواقع الأثرية في العالم العربي، من بينها المتحف المصري ومدرسة السلطان حسن بالقاهرة، والقصر الملكي بالعاصمة الليبية طرابلس، والجامع الجديد بالجزائر العاصمة، وغيرها من المواقع المتنوعة.
هكذا ربطت هذه الوسائل الجديدة المجتمع العربي بما هو مدني غير مادي وغير مكاني بما يسمح بتجاوز النظرة التقليدية لفكرة المكان والزمان([viii])، ويؤهل المجتمعات العربية لمجابهة تفشي الوباء وتقليل عدد ضحاياه عن طريق:
هـ-إصدار تطبيقات ومنصات رقمية وقائية:
شهدت فترة تفشي الوباء نشاطًا غير مسبوق في مجال إصدار تطبيقات ومنصات رقمية من شأنها تقليل خطر الإصابة بالفيروس، ومن ثم الحد من عدد الوفيات، وقد بذلت الدول العربية في هذا المجال جهودًا متميزة حاولت من خلالها تسخير هذه الوسائل للوقاية والتعبئة الجماهيرية.
كما أصدرت كثير من التطبيقات الرقمية التي تعمل على حصر الأشخاص الذين كانوا قد خالطوا أشخاصًا مصابين، وإلزامهم باتخاذ الإجراءات الاحترازية الكفيلة بكسر سلسلة انتقال العدوى.
وتحقيقًا لهذا الهدف المتمثل في إيقاف زحف الفيروس، عمل المغرب على إصدار تطبيق حمل اسم “وقايتنا”، سخر لتعقب الأشخاص المخالطين للمرضى من أجل تحديد هوياتهم وأماكن تواجدهم وإلزامهم بإجراءات العزل المنزلي ومعاقبتهم في حال مخالفة هذه الإجراءات([ix]).
وفي ذات التوجه، أطلقت السعودية تطبيق “تطمن” الغرض منه تقديم الحماية والرعاية الصحية للمواطنين والمقيمين الذين فرضت عليهم إجراءات العزل المنزلي أو الصحي بما يضمن سلامتهم ويعزز من إجراءات تعافيهم، حيت يوفر هذا التطبيق لسكان المملكة عددًا من الخدمات من بينها نتائج الفحوصات الطبية وتحديث بيانات المخالطين، والمتابعة اليومية للحالات الصحية وارتباطات دعم التقصي الوبائي، بالإضافة إلى خدمات أخرى مثل توفير مؤشر العد التنازلي للعزل الصحي([x]).
من هذا المنطلق تعزز مجال تواصلي جديد تشكلت داخله أنماط لم تعهدها الحكومات العربية في مجال التوعية والوقاية تقوم على الاستثمار في ممكنات الوسائط الجديدة، من أجل تعميم الثقافة الصحية طورًا ومراقبة وتتبع الوضعية الوبائية طورًا آخر، وهو ما أدى إلى ظهور تطبيقات متنوعة مثل تطبيق “الحصن الرقمي” الذي تمَّ توظيفه في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتطبيق “شلونك” الكويتي، وتطبيق “مجتمع واعي” الذي أطلقته الحكومة البحرينية في مارس 2020م، وتطبيق “احمي” التونسي الذي وضع كحل لعمليات تعقب مسارات حاملي المرض.
وانخراطًا منها في مجال توظيف الرقمنة في مواجهة الجائحة طورت الجزائر تطبيق “بصحة” لحجز المواعيد الطبية وتسهيل تسييرها لتفادي الاكتظاظ والقضاء على الفوضى في المستشفيات والمراكز الصحية([xi]).
بهذا الاتجاه المكثف نحو استخدام التطبيقات المعلوماتية في إدارة الأزمة الصحية للجائحة، أدركت الحكومات العربية أهمية ونجاعة الرقمنة في تسيير الشأن العام وفي التقليل من مخاطر الوباء وتسهيل التواصل بين الأفراد والمجموعات، وشعرت بهول ما ينتابها من هلع من طرح سؤال: ماذا لو لم تتوافر هذه التقنيات الحديثة التي مكنتنا على الرغم من الصعاب من إدارة الأزمة ومواصلة التواصل البشري عن بُعد؟.
خاتمة:
لقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الرقمنة في العالم العربي لم تعد ترفًا تقنيًّا أو مبتكرًا كماليًّا، بل أصبحت شرطًا بديهيًّا من شروط التحديث والنهضة، وأصبح ترسيخها أمرًا محسومًا لا مناص منه، وتبنيها حتمية ضرورية لا بديل عنها.
وهذه الحقيقة بدورها غيرت مفهوم “موازين القوى”، فلم تعد الريادة تقاس بالمال والتفوق العسكري، بل بما تملكه الأمم من معارف وخبرات في اقتصاد أصبح يعرف باقتصاد المعرفة، حيث تمثل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات العمود الفقري.
لهذه الاعتبارات وجب على الدول العربية اعتماد الرقمنة محركًا رئيسـًا في كل مخططاتها وبرامجها الاستشرافية، فهي سلاحها صوب المستقبل وهي القاطرة التي ستنقلها نقلة نوعية في مجال أتمتة الأشياء والانخراط الذكي في متطلبات العولمة.
الهوامش
([i]) وزارة الثقافة السعودية، 2020م.
([ii]) وزارة الثقافة المصرية، 2020م.
([iii]) بدر أحمد أنور، الثقافة الافتراضية ومجتمع المعرفة، دار الثقافة العلمية، القاهرة، 2012م، ص94.
([iv]) Steve Woolgar, Virtual society, technology, cyberbole, reality, oxford, 2009, P61.
([v]) خليل محمد سعد، أسس الجذب السياحي، دار المعارف، القاهرة، 2016م، ص21.
([vi]) وزارة الصحة السعودية، 2020م.
([vii]) وزارة السياحة والصناعات التقليدية التونسية، 2020م.
([viii]) Marc. Lits, La mediatisation de l’espace public, edition Gallimard, Paris 2012.
([ix]) وزارة الاتصال، المغرب، 2020م.