(ديب سيك):
في نهاية شهر يناير 2025م، وخلال مؤتمر للحزب الجمهوري في ميامي، حذر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من أن “ديب سيك” (DeepSeek) الصيني يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار لشركات التكنولوجيا الأمريكية، لأنه يجب التركيز على المنافسة للفوز.
كلفة أقل في التطوير والاستخدام
وقتها أدى نجاح أحدث نماذج “ديب سيك” للذكاء الاصطناعي في موجة تراجع حادة لأسهم بعض كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، وتمكن النموذج الأول من روبوت المحادثة الجديد “ديب سيك- آر1” الذي أطلقته شركة صينية ناشئة في 20 يناير 2025م، من منافسة عمالقة الذكاء الاصطناعي الأمريكيين بسرعة مذهلة ولافتة.
ووفق “بلومبيرغ” خسر أغنى (500) شخص في العالم، بقيادة جينسن هوانغ المؤسس المشارك لشركة “إنفيديا”، ما مجموعه (108) مليارات دولار في يوم واحد، علاوة على ذلك، أزاح هذا النموذج منافسيه الأمريكيين “تشات جي بي تي” التابع لشركة “أوبن إيه آي”، و”جيميناي” التابع لـغوغل، وغيرهما من النماذج المماثلة عن عرشها، ليس هذا فحسب، بل أن المفارقة الكبرى تكمن في كلفة تطويره المتدنية للغاية مقابل ما صرفته الشركات الأمريكية في تطوير نماذجها.
فقد بلغت تكلفة تطوير النموذج الأساسي من هذا النموذج (5.6) مليون دولار فقط، باستخدام بطاقات رسومات قديمة من إنفيديا، مقارنة بمئات الملايين من الدولارات التي تنفقها الشركات الأميركية في تطوير نماذج مشابهة.
أي أنه بإمكان الشركات تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة ومتفوقة باستخدام تقنيات ليست الأحدث، وبالتالي فهي أقل تكلفة.
حقيقة هذا الرقم قد يكون مغاير وفق “سي إن بي سي”، حيث قدم تقرير جديد صادر عن شركة “سيمي أنالوجي” (SemiAnalogy)، وهي شركة أبحاث واستشارات لأشباه الموصلات، مزيدًا من التوضيحات لنفقات “ديب سيك”، وقدرت الشركة أن الإنفاق على أدواته أعلى بكثير من (500) مليون دولار على مدار تاريخ الشركة، مضيفة أن تكاليف البحث والتطوير والتكلفة الإجمالية للملكية كبيرة.
وفي السياق المتصل بتكلفة الاستخدام، نجد أنه بينما تبدأ اشتراكات “تشات جي بي تي” من (20) دولارًا شهريًّا، تبلغ تكلفة اشتراك “ديب سيك” الشهرية نصف دولار فقط، يضاف إلى ذلك أن تكلفه تشغيل “ديب سيك” أقل بنحو (27) مرة مقارنة بـتشات جي بي تي، إن أراد المستخدم تشغيل النظام على أجهزته الخاصة لأغراض الأعمال.
تقدم واضح في النموذج الصيني
هذا التقدم الواضح في النموذج الصيني الذي يلاحق عن كثب كبار قطاع التكنولوجيا الأمريكية بشكل مذهل، دفع سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي، إلى وصف نموذج “آر1” بأنه مذهل، مؤكدًا بأن القدرة الحاسوبية الأكبر هي مفتاح هذا النجاح، مضيفًا: “لكننا متحمسون بشكل أساسي لمواصلة تنفيذ خريطة الطريق الخاصة بنا بشأن البحث ونعتقد أن زيادة (القدرة) الحاسوبية باتت أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى حتى ننجح في مهمتنا”.
نذكر هنا أنه بينما تستخدم الشركات الأميركية أسلوب زيادة القدرة بشراء مزيد من وحدات الرسومات لمعالجة البيانات وتدريب الذكاء الاصطناعي لفترات أطول، قامت هذه الشركة الصينية الصغيرة بإعادة النظر في مفهوم تدريب الذكاء الاصطناعي، وطورت أسسًا جديدة أكثر كفاءة تستطيع العمل على وحدات الرسومات القديمة والأقل تكلفة لتقديم نتيجة أفضل من تلك التي تقدمها الشركات الأميركية، أي أنها ركزت على الابتكار التقني بكفاءة عالية في ظل شح الموارد عوضًا عن التقدم بالمال فقط.
زيادة على ذلك، تحتاج شركات الذكاء الاصطناعي إلى حواسيب فائقة تحوي ما يصل إلى (16) ألف رقاقة متقدمة من إنتاج “إنفيديا” لتدريب النماذج، بينما اعتمد مهندسو “ديب سيك” على ألفي رقاقة فقط، ونجحت نماذجها في الإجابة عن الأسئلة، وحل المشكلات المنطقية، وكتابة أكواد برمجيات حاسوبية دون تدخل بشري بجودة تعادل النماذج الأخرى المتاحة في السوق، وحسب المعايير والاختبارات القياسية التي تعتمد عليها الشركات الأمريكية.
إستراتيجية تطوير نموذج “ديب سيك”
خلال دراسته الجامعية، شارك الصيني ليانغ وينفنغ في فبراير 2016م، في تأسيس صندوق التحوط “هاي فلاير” (High-Flyer) الذي يستثمر في قطاع الذكاء الاصطناعي، وفي 14 أبريل 2023م أعلنت “هاي فلاير” عن بدء العمل في مختبر مخصص للبحث لاستكشاف جوهر الذكاء العام الاصطناعي بشكل منفصل عن الأعمال المالية لها.
تأسست “ديب سيك”، التي يقع مقرها في هانغتشو عاصمة مقاطعة جيجيانغ شرق الصين في وقت لاحق من عام 2023م، حيث تعمل الشركة الناشئة في مجال تطوير النماذج مفتوحة المصدر، وتعتمد في تمويل أعمالها على الصندوق.
وقد نجحت الشركة في تحقيق إنجازاتها التقنية على الرغم من القيود الغربية والأمريكية المفروضة على تصدير الرقائق الأكثر تقدمًا بفضل تخصيص صندوق “هاي فلاير” كافة أرباحه منذ عام 2021م، لشراء الآلاف من رقائق “إنفيديا”، ثم استخدامها في تطوير نماذج “ديب سيك” الأولية دون الاضطرار للتعامل مع مطالب ووجهات نظر مستثمرين آخرين.
وقد اعتمدت أعمال الشركة منذ تأسيسها على التقنيات مفتوحة المصدر بجانب قدرات فريقها التكنولوجي، وباتت تتمتع بعلاقات واسعة في هذا المجال، وأثبت نجاحها قدرة الشركات الصينية على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي منافسة وعالية الكفاءة باستخدام موارد محدودة.
لقد بدأت رحلة التطوير بإصدار (DeepSeek Coder) بعد أشهر قليلة من التأسيس، وتحديدًا في شهر نوفمبر 2023م، وهو نموذج مفتوح المصدر مصمم لمهام الترميز، ثم بعد ذلك أطلقت الشركة نموذجها (DeepSeek LLM)، وهو نموذج يستهدف التنافس مع نماذج اللغات الكبيرة الأخرى.
وفي مايو 2024م، أطلقت الشركة نموذجها (DeepSeek-V2)، والذي اكتسب اهتمامًا واسعًا بأدائه القوي وتكلفته المنخفضة، الأمر الذي أدى إلى حرب أسعار في سوق نماذج الـذكاء الاصطناعي الصينية. لاحقًا تم استبدال (DeepSeek-V2) بـ(DeepSeek-Coder-V2)، وفي سياق رحلة الشركة، فإن النماذج الأحدث (DeepSeek-V3) و(DeepSeek-R1) عززت بشكل أكبر مكانتها كقوة مؤثرة في السوق.
تقول “بلومبيرغ”: إن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت “ديب سيك” لا تعتمد على استثمارات ضخمة أو رقائق متطورة لتطوير نموذجها، هو أن الشركات الصينية كانت لديها إمكانيات محدودة للوصول إلى وحدات معالجة الرسومات القوية، التي تعتمد عليها معظم الشركات الغربية، وذلك منذ أن فرضت الحكومة الأميركية قيودًا صارمة على تصدير الرقائق الأكثر تطورًا.
فقد قامت الشركة بخطوة ذكية بتوقع المستقبل وشراء حوالي (10) آلاف وحدة معالجة رسومية من “إنفيديا” قبل أن يبدأ الحظر الأمريكي على التصدير، وإجمالًا، طورت الشركة نموذجها باستخدام (50) ألف وحدة معالجة رسومية فقط، وهو عدد ضئيل مقارنة بـ(500) ألف وحدة معالجة رسومية التي تستخدمها شركات مثل “أوبن إيه آي” و”غوغل”، وفقًا للتقارير.
لكن امتلاك كل هذه القدرة الحاسوبية كان سيصبح بلا جدوى إذا لم تكن النتائج إيجابية، وهو ما حدث بالفعل، علاوة على ذلك تلقى فريق العمل في “ديب سيك” الذي يتكون من نخبة من حاملي الدكتوراه من الجامعات الصينية، أجورًا مجزية تتناسب مع مواهبهم وقدراتهم العالية.
مخاوف وتشكيك غربي
المخاوف تتعلق بالأمن السيبراني وأمن المعلومات، وقد قامت المئات من الجهات، وخاصة تلك التي لها علاقات بالحكومة الأميركية، وجهات غربية أخرى بحظر الخدمة، على خلفية أن أكبر مصدر للقلق هو تسرب البيانات المحتمل لنموذج الذكاء الاصطناعي إلى الحكومة الصينية.
وقال أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة أكسفورد، مايكل وولدردج، لصحيفة “الغارديان” البريطانية: “إنه من غير المستبعد أن يتم مشاركة البيانات المدخلة عبر “ديب سيك” مع الحكومة الصينية”، مشيرًا إلى أنه لا بأس من استخدام المنصة للحديث عن مواضيع عادية لكن لا يجب تحميل بيانات شخصية أو حساسة عليه، مضيفًا: “لا تعرف أين تذهب بياناتك؟”.
من جهتها، قالت عضو الهيئة الاستشارية الرفيعة للأمم المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، ديم وندي هول: “إنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن الشركات الصينية الخاضعة للسلطات الصينية قد تكون مجبرة على الامتثال لقوانين حكومتها فيما يتعلق بالمعلومات التي تعالج”.
ميزات وتنبيهات
النموذج يدعم اللغة العربية وهو يتوسع في دعم اللغات الأخرى بجانب الصينية والإنجليزية، وتبرز أهم ميزاته في قدرته على إجراء البحث العميق في الإنترنت، حيث يتيح للمستخدمين الوصول إلى بيانات من مواقع وقواعد بيانات قد لا تظهر في محركات البحث التقليدية، هذه المواقع تشمل منتديات خاصة، محتويات مخفية خلف جدران الحماية، أو حتى قواعد بيانات تحتوي على أبحاث علمية أو تقارير تجارية غير متاحة للجمهور.
أخيرًا فإن استخدام “ديب سيك” يتطلب حذرًا كبيرًا عندما يتعلق الأمر بالأمن والخصوصية، مثله مثل غيره من نماذج الذكاء الاصطناعي، ونظرًا لأنه يتيح الوصول إلى أجزاء من الإنترنت قد تحتوي على أنشطة غير قانونية، هناك إمكانية لاستخدامه في أغراض مضرة، وقد يترتب على ذلك مشاكل قانونية للمستخدمين في بعض الحالات، وهو ما يعكس جانبًا آخر من المخاطر المرتبطة بتقنية البحث العميق.