جائحة كورونا المستجد أدت لتوقف الكثير منها
جاءت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) لتعمق أزمة الصحافة الورقية، التي اضطر كثير منها في وقت سابق إلى التوقف بعد خسارة التحدي مع الصحف ووسائل الإعلام الإلكترونية، وهو ما يزيد من التساؤلات حول مستقبل هذه الصحف، وإذا ما كانت في طريقها إلى الاندثار بشكل تام.
وبحسب نشرة “أخبار الساعة” التي يصدرها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية أنه إذا كانت بعض الصحف الورقية قد استطاعت الصمود بحكم ما لديها من موارد مالية، أو بحكم نجاحها في الجمع بين الإعلام التقليدي والإعلام الإلكتروني، أو بحكم ما حققته من مكاسب من عملية التوزيع أو الإعلان، فإن هذا النوع الأخير من الصحف على وجه التحديد واجه تحديات جديدة مع جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) التي غزت العالم بشكل مفاجئ، وحولته إلى جزر منعزلة بين عشية وضحاها، حيث أحجم القراء عن شراء الصحافة الورقية خوفـًا من العدوى، وبادر كثير من ناشري هذه الصحف إلى وقف صدور صحفهم.
وتحت وطأة هذه الظروف الصحية العالمية وتأثيرها السيئ في الاقتصاد، اضطرت بعض المؤسسات الصحفية لتعليق العمل تمامًا أو تسريح العمالة في أفضل الأحوال، بينما نجحت مؤسسات أخرى في تخطي الأزمة، واللافت أن المؤسسات التي تمكنت من تخطي الأزمة، كانت تتبع إستراتيجية اقتصادية تعتمد على تنوع مصادر التمويل.
ووفق العديد من الخبراء، وعلى رأسهم “جانين وارنر” (Janine Warner)، المؤسس المشارك لمؤسسة (Sembra Media)، المختصة بتقديم استشارات بشأن استدامة وسائل الإعلام، تمثل هذه الإستراتيجية مفتاح الاستدامة للمؤسسات الصحفية في أوقات الأزمات، فإذا بدأ مصدر ما بالشح، تتولى المصادر الأخرى توفير التمويل المطلوب.
في ذلك يقدم أحمد العطار من شبكة الصحفيين الدوليين قائمة بأهم مصادر التمويل المبتكرة والمستخدمة، التي يرشحها الخبراء من أجل بقاء المؤسسات على قيد الحياة، كما يلي:
المحتوى المدفوع
في نهاية عام 2018م، أعلنت صيحفتا “نيويورك تايمز الأمريكية” و”الغارديان البريطانية” أن لديهما مئات الآلاف من القراء الذين يدفعون مقابل المحتوى، والأمر ينتشر بسرعة ويحقق نجاحًا ملفتـًا، ذلك ما ذكره التقرير السنوي لمعهد “رويترز لدراسات الصحافة 2020م”، مؤكدًا أنه من المقرر خلال العام الجاري أن تصبح عائدات القراء مصدرًا رئيسًا للدخل بالنسبة لنصف الناشرين.
ويقول الصحفي السابق في الـ”بي بي سي” نيك نيومان (Nic Newman): “إن الناشرين الذين راهنوا مبكرًا على الاشتراكات والعضويات مقابل رسوم معقولة، يجنون الأرباح الآن من إيرادات القراء، وذلك مقابل محتوى حصري أو نشرات للأخبار وغيرهما من خدمات.
ويُعدّ نموذج “فريميوم” (Freemium) وهو نظام تسعير، الأكثر شعبية بين نماذج الدفع مقابل المحتوى، ويوفر هذا النوع المحتوى العادي مجانـًا، لكنه يشترط الاشتراك للوصول إلى المحتوى الإضافي أو الحصري، حيث يعتمد موقع “ذا ديلي بيست” الأميركي هذا النموذج، ويسمح للمشتركين فقط بالوصول للمحتوى الحصري مقابل (100) دولار سنويـًّا.
وهناك نموذج آخر تعتمده مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، حيث تعرض جزءًا محددًا من المحتوى مجانــًا، وتشترط الاشتراك للوصول إلى باقي المحتوى، ويمكن –أيضـًا– الجمع بين هذين النموذجين فيما يعرف بالنظام “الهجين”.
أما صحيفة “الغارديان” البريطانية، فقدمت محتواها كله مجانـًا، لكنها وفرت للمشتركين والأعضاء خصومات وحجوزات ذات أولوية للأحداث والفعاليات الخاصة بها، أو التي تشارك فيها بعلاماتها التجارية .
مدخلات المنتجات الرقمية
لا يزال ثلثا عائدات الصحيفة السويدية (Dagens Nyheter) “أخبار اليوم” يأتي من الطباعة، لكن قيادتها قررت التركيز على تصميم المنتجات الرقمية وبيعها، وقد استدعت الصحيفة مطوري الويب والجوال، لإنشاء مواقع مشاريع خاصة وتطبيقات جوال وتجارب تفاعلية للمستخدم، وتنسيقات مبتكرة مثل الواقع الافتراضي والكتب الصوتية. ونشرت الصحيفة إصدارات صوتية لجميع قصصها الصحفية الطويلة، وأطلقت تطبيقـًا جديدًا للتسلية واختبارات الذكاء والكلمات المتقاطعة بجانب تطبيقها الإخباري، وفرضت رسومًا مقابل الاشتراك الشهري.
توازيًا، كان لصحيفة “التليغراف هيرالد(The Telegraph Herald) الأمريكية تجربة مختلفة، حيث قررت تنويع إيراداتها بتأسيس لعبة رقمية بعنوان: (Escape Room Dubuque)، ينخرط فيها اللاعبون داخل سلسلة من التحديات والألغاز التي يجب عليهم حلـّها من أجل الخروج من الغرفة المغلقة، وحقق المشروع أرباحًـا خيالية بعد ستة أشهر فقط.
خطط مبتكرة لجذب الإعلانات
استطاع “رولي بروني” (Rowly Bourne)، المؤسس والشريك في مؤسسة “ريزونينس” (Rezonence) لتمويل الصحافة في بريطانيا، ابتكار آلية بسيطة لجذب المعلنين وإقناعهم بدفع مبلغ معقول مقابل ضخ إعلاناتهم في المواقع الإلكترونية، وذلك عبر تزويدهم بإثباتات أن إعلاناتهم قد تمـَّت قراءتها وفـَهمها، وتعتمد الآلية التي طرحها من خلال منتج يسمى “فري وول” (Free Wall)، على ربط إعلان واحد بقراءة المقال كاملاً، وذلك بوضع سؤال بسيط نسبيًّا أسفل الإعلان، وبعد الإجابة عن السؤال يظهر المقال كاملاً، وهذا يثبت للمعلن أن علامته التجارية لفتت انتباه القراء، ولا يزال الإعلان واحدًا من مصادر التمويل التي يجب الاعتماد عليها، لكن مع بعض التغيير في الإستراتيجيات.
وفي تصور مواز، يرى البعض أن الاعتماد على الإعلان الأصلي (Native Advertising) هو الحل، وهو إعلان يأخذ شكل القصص الإخبارية الحقيقية، ويحمل رواية مقنعة حول منتج ما بهدف تسويقه، حيث تعتمد “نيويورك تايمز” بشكل كبير على الإعلانات الأصلية لتحقيق الأرباح، وأبرزها كانت مجموعة قصص لصالح شركة “ديل” (Dell) للكمبيوتر.
وعلى الرغم من انتشار هذا النوع من الإعلانات مؤخرًا، وتفضيل المعلن والناشر له، إلا أن “إيرك كورس” (Eric Goers) مدير الابتكار بمجلة “تايم”، يحذر من أنه قد تقوض ثقة القارئ، إذا لم يتبع الناشر معايير وقواعد واضحة لضمان عدم خداع الجمهور.
الفعاليات مصدر للتمويل
في أعقاب الجائحة، نجحت بعض المؤسسات في تحويل جميع فعالياتها إلى الفضاء الافتراضي، وفرضت رسومًا عليها وحققت أرباحـًا، ويمكن –أيضًا– أن تكون الفعاليات التعليمية، مثل تدريب الصحفيين والطلاب على العمل الصحفي مقابل رسوم معقولة، مصدرًا مهمًا للدخل.
فصحيفة “شاتنوغا تايمز فري برس” (Chattanooga Times Free Press) التي تصدر بولاية تينسي الأمريكية، تعتمد على تنظيم وبيع الفعاليات كمصدر رئيس لإيراداتها، وقد بدأت تجربتها تلك قبل أعوام قليلة، ووضعت شعارها على الندوات والمؤتمرات والمهرجانات والمعارض التجارية والمسابقات ومعارض التوظيف، وروجت لها داخليًّا وخارجيًّا ونظمتها بشكل جيد، ثم جمعت ملايين الدولارات.
التمويل الجماعي يساعد أيضًا
تضع بعض الصحف البريطانية، خاصة “الغارديان” نصـًّا مثبتـًا على كل صفحات الموقع، تطلب فيه الجريدة من قرائها التبرع من أجل الإسهام في ضمان مستقبلها، هذه الرسالة تحيلنا إلى مسألة “التمويل الجماعي” (Crowd funding)، حيث يدعم الجمهور المشاريع الإعلامية بالمال اللازم لأجل إطلاقها أو ضمان استمرارها، وقد نجحت الصحيفة البريطانية في الاعتماد على هذه التبرعات كمصدر مهم للدخل، كما دخلت في شراكة مع موقع “التمويل الجماعي” (Kick starter) لتقديم نفسها للمتبرعين عبر منصته الشهيرة.
هنا يرى خبير التسويق “سيث غودين” (Seth Godin) أن نجاح حملات التمويل الجماعي مرتبط بتصميم إستراتيجية متطورة لإشراك الجمهور عبر التواصل معه بشكل أفضل وإعادة تقييم احتياجاته، ففي أعقاب الجائحة وضعت بعض الصحف إستراتيجية مكنتها من توسيع قاعدتها الجماهيرية عبر قصص تراعي الشرائح المختلفة، والعمل بشكل تعاوني، وتقديم المساعدة لمن يحتاجها، وهناك صحف مكنت القراء من الوصول مجانـًا للمحتوى المدفوع الخاص بالجائحة، وأخرى أطلقت قناة على تليغرام لضخ محتوى مجاني عن الفيروس، فيما أطلق أحد المواقع الأمريكية خدمة لربط الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة مع أولئك الذين يمكنهم تقديمها.
صحافة الحلول المجتمعية
كان لـ”جيل غوردين سبتز” (Jill Jorden Spitz) المحررة في صحيفة “أريزونا ديلي ستار” (Arizona Daily Star)، تجربة مميزة في جمع التمويلات المتعلقة بـ”صحافة الحلول”، وتقول: “إنها حظت بتمويلات أكثر عندما طلبت من الممولين أصحاب الأهداف الاجتماعية دعم مشروع يتماشى مع أهدافهم من مجرد مطالبتهم بدعم الصحافة”، ويؤكد خبراء أن الرهان على “صحافة الحلول” التي توجد الحلول لمشكلات المجتمع تضمن تمويلاً سخيًّا.