أربعة عقود مرت منذ انطلقت مسيرة مجلس التعاون الخليجي، هذا الكيان الشامخ الذي نتفيأ ظل نجاحاته اليوم، وحين يتعلق الأمر بعمل صحفيّ في هذه المناسبة، يأخذ العمل طابعاً تاريخياً وتنسجم فيه معطيات الذاكرة الشخصية والطرح الإعلامي، لنجد أنفسنا امام الكثير مما يجب قوله، وكلها على ذات القدر من الإلهام والأهمية، ولأنه الخليج الذي يجري في مشاعرنا وعلى شواطئ افكارنا، يصبح الحياد مسافة مستحيلة، ونقتنع أن الاحتفاء بالذكرى الأربعين لا يتطلب منا اختيار عبارات جميلة معينة، لأن أجمل ما يمكننا فعله هو أن نروي ما حدث.
تجربة إعداد هذا الإصدار تدفع نحو التأمل مطولاً في ميزات التجربة الخليجية وخصوصيتها المتفردة، تلك التي لا ننتبه لها من فرط اعتيادنا عليها، بدءاً من فكرة التأسيس والجولات المكوكية لإقناع الدول، مروراً بلحظة توقيع النظام الأساسي وباللقاءات الوزارية والمواقف والتصريحات الخالدة وصولاً إلى لحظتنا الحالية، كانت جميع التفاصيل على ذات القدر من الأهمية، وبينما تخبرنا أبجديات المهنة أن ثراء الحديث تعبير تلقائي عن ثراء الحدث، كنا نتأكد من ذلك خلال رصد مسيرة مجلس التعاون، على مدى ساعات وأيام متصلة تجولنا خلالها افتراضياً بين الطاولات المستديرة وأروقة القمم وأوراقها، في رحلة لم يغب عنها الفخر، ولم تنقصها العاطفة، وكان محورها التقدير الممتد لأربعين عاماً مضت، والتفاؤل بعدد لا محدود من الأعوام المقبلة.
ونحن نستعيد المنعطفات التاريخية التي مرت بها المنطقة وصمود مجلس التعاون في مواجهتها، بل وخروجه منها أقوى في كل مرة، نتذكّر مقولة الأديب الفرنسي فيكتور هوغو “لا شيء أقوى من فكرة حان وقتها”، وكيف كانت نشأة المجلس شاهداً حقيقياً على هذه الفرضية من خلال وجوده في المكان الصحيح تماماً من حركة التاريخ مستثمراً تجانس التوقيت والأسباب والظروف ليصنع أحد أنجح التكتلات السياسية والاقتصادية في العصر الحديث، ومع مرور الأحداث علينا تباعاً، كنا ندرك أن الأمور كانت لتسوء أكثر لو لم يكن هذا المجلس قائماً، فقد ظل يثبت لنا في كل مرة أنه مصدر الأمان، وأنه الفكرة التي يحين وقتها باستمرار.
أربعون عاماً، بلغ فيها التعاون أشده ليزيد شباباً وعنفواناً، وصل فيها إلى ذروة الحكمة والرشد ليتعامل بالطريقة المثلى مع أكثر الملفات تعقيداً، تحالف غير تقليدي، اندمجت وسائله في غاياته، واتحدت مصالحه مع مبادئه، فإذا به يقدم للعالم هذا النموذج المتكامل من مواطنين يعد الوفاء من تقاليدهم والولاء من شيمهم، وقيادات تميزت بالحكمة والفروسية العربية الأصيلة، استطاعت التقاط اللحظة التاريخية بإعلان قيام هذا المجلس، في قراءة واعية واستراتيجية لخارطة المنطقة بخطوط أمنها ودوائر اقتصادها، ومازال الخليجيون حتى اليوم يمتلكون ذات التمرس في تحويل قيمهم إلى إجراءات فاعلة وخطط نافذة، وعلى نحو يتجاوز فن الممكن المجرد إلى اكتشاف الممكنات وابتكارها في ظل الأخوة الحقيقية، بشكل لا تجيد القيام به مفاعيل السياسة التقليدية.
أخيراً، تعرّف القواميس كلمة “الخليج” لوحدها بأنها امتداد مائي تحيطه اليابسة، ولكن مجلس التعاون أضاف لها الكثير من المعاني والصور الذهنية الثابتة، فالخليج اليوم كناية الاستقرار والرخاء ومقصد العالم، والخليجي وصف معتمد لمواطن واحد ينتمي إلى ست دول، وبعد أربعة عقود مرت بإنجازات لا تعد ولا تحصى على قيام هذا المجلس المبارك، نتذكر وصف الشيخ جابر الأحمد الصباح له بأنه “هدية الآباء لجيل المستقبل”، موقنين بأنه الهدية التي لا تقدر بثمن.