منصات الإعلام والترفيه الرقمي الجديدة (درودج ريبورت) من موقع إلكتروني لتجميع الأخبار إلى أكبر منصة مؤثرة في السياسة الأمريكية

د. عباس مصطفى صادق الخبير في الإعلام الرقمي

لزمن طويل سادت الإعلام الدولي أسماء إمبراطوريات معروفة، مثل: “تايم وارنر، وإكسل شبرنغر، وبرتلزمان وديزني، وغيرهم”، الآن دخلت وجوه جديدة تصنع محتوى جديد كليًّا ويعرفها جيل الشباب، أسماء مثل: “نيتفليكس، فايس ميديا، وبزفيد، وإنسايد إديشن، وفوكس، وام أي سي ميديا، وأمازون برايم فيديو، وهولو، وام أي سي ودرودج ريبورت”، هم عمالقة جدد في الإعلام والترفيه الدولي، بأحجام وتأثيرات واتجاهات مختلفة، بعضها حقق نجاحـًا منقطع النظير وبعضها تعرض للفشل.

 

بداية الانطلاقة وتغيير الأيديولوجية

“درودج ريبورت” (The Drudge Report) هو موقع إلكتروني لتجميع الأخبار (News aggregator) مقره في الولايات المتحدة الأمريكية، أسسه “ماثيو ناثان درودج” (Matthew Nathan Drudge) المعلق السياسي الأمريكي، رئيس التحرير والمؤلف، ومقدم البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وكان يُنظر إلى هذا الموقع على أنه منشور ذو طبيعة محافظة، على الرغم من أن ملكيته وميوله السياسية قد أصبحت مؤخرًا موضع تساؤل بعد تغييرات في نموذج العمل تم إجراؤها في أواخر عام 2019م.

فبحلول عام 2020م، خلص بعض المحافظين البارزين في الولايات المتحدة الأمريكية – بما فيهم الرئيس السابق دونالد ترامب – إلى أن “درودج ريبورت” قد تخلى عن أيديولوجيته المحافظة، حيث صرح “تاكر كارلسون” مضيف قناة فوكس نيوز المشهور: بأن “مات درودج” هو الآن رجل اليسار التقدمي بشكل واضح.

هذا الموقع الشهير يتكون بشكل أساسي من روابط لقصص إخبارية من منافذ إخبارية متعددة حول السياسة والترفيه والأحداث الجارية، فضلاً عن روابط للعديد من كبار كتـّاب الأعمدة في شتى المجالات، وقد تأسس في عام 1995م كرسالة أسبوعية بالبريد الإلكتروني تعتمد على الاشتراكات، وكان أول مصدر إخباري ينشر فضيحة “مونيكا لوينسكي” للجمهور، بعد أن قررت مجلة “نيوزويك” إخفاء القصة.

بدأ الموقع كعمود للقيل والقال بالتركيز على هوليوود وواشنطن العاصمة، وكان “مات درودج” يرسل مواضيعه الإخبارية بالبريد الإلكتروني من شقة في هوليوود مستعينًا بصلاته مع المطلعين على الأحداث والإعلام للحصول على الأخبار المهمة والعاجلة التي يرسلها أحيانـًا قبل أن تصل إلى وسائل الإعلام الرئيسة.

في أيامه الأولى، عمل “مات” على الموقع من منزله في ميامي بيتش بفلوريدا، وذلك مع مساعدين لاختيار القصص والموضوعات وكتابة العناوين وغير ذلك من مهام تحريرية وفنية، وكان “أندرو بريتبارت” أهم مساعديه الذي  عمل في فترة ما بعد الظهر في الموقع في نفس الوقت الذي كان يدير فيه موقعه الخاص (Breitbart News)، والذي قدم من خلاله منظورًا محافظـًا للأشخاص الذين برعوا في صناعة الترفيه في لوس أنجلوس.

في عام 2010م، ضم “درودج” “جوزيف كيرل” كاتب العمود السابق في صحيفة “واشنطن تايمز” إلى طاقمه، وفي عام 2011م ضم كذلك “تشارلز هيرت” الذي كان مديرًا لمكتب نيويورك بصحيفة “نيويورك بوست”، وكاتب عمود في صحيفة “واشنطن تايمز”، وقد غادر “كيرل” الذي عمل رئيسًا لتحرير النوبة الصباحية للموقع في عام 2014م، ليطلق في يناير 2015م موقع تجميع الأخبار لصحيفة “واشنطن تايمز”  “رايت ريد” (Right Read).

لقد حصل هذا الموقع على اهتمام واسع  في عام 1996م، عندما أعلن أن “جاك كيمب” سيكون نائب “بوب دول” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1996م، وفي عام 1998م أحدث الموقع  ضجة عالمية عندما أعلن أن مجلة “نيوزويك” لديها معلومات عن علاقة غير لائقة بين “متدربة في البيت الأبيض” والرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون”، التي أُطلق عليها وقتها “فضيحة مونيكا لوينسكي”، لكن “نيوزويك” حجبتها ثم عادت ونشرتها بعد ظهورها في تقرير “درودج”.

يتكون الموقع بشكل أساسي من روابط تشعبية مختارة متصلة بمواقع إخبارية من جميع أنحاء العالم، ويحمل كل رابط عنوانـًا مكتوبًا بوساطة “مات درودج” أو محرريه، كما يتضمن أحيانـًا موضوعات يكتبها “درودج” بنفسه، وعادة ما يكون طولها فقرتين إلى ثلاث فقرات، غالبًا ما تتعلق بقصة مثيرة سيتم نشرها في مجلة أو صحيفة كبرى، كما ينشر الموقع أحيانـًا تقييمات “نيلسين” (Nielsen) و”اريبترون” (Arbitron) و”بوك سكان” (Book Scan)، فضلاً عن نتائج استطلاعات الرأي المبكرة عن الانتخابات والتي لم يتم إتاحتها للجمهور.

 

القبول الجماهيري وبعض العقبات

بينما ظل الموقع يجد فرصته الواسعة في القبول الجماهيري، فقد ظل –أيضًا- يتعرض لكثير من العقبات والمشكلات، ففي أبريل 2009م أعلنت وكالة “اسوشيتد برس” الأمريكية للأنباء أنها ستراجع مبدأ الاستخدام العادل، الذي تتبناه مواقع، مثل: “غوغل ودرودج ريبورت” لتبرير استخدام محتوى الوكالة من دون مقابل.

وفي 4 مايو 2009م، أصدر مكتب المدعي العام الأمريكي تحذيرًا للموظفين في ولاية ماساتشوستس بعدم زيارة موقع “درودج”، ومواقع أخرى بسبب شفرات خبيثة موجودة في بعض الإعلانات المنشورة فيه. وفي مارس 2010م حذرت شركة مكافحة الفيروسات “أفاست” (Avast) من أن الإعلانات في “درودج ريبورت، ونيويورك تايمز، وياهو، وغوغل وماي سبيس”، ومواقع أخرى تحمل برامج خبيثة يمكن أن تصيب أجهزة الكمبيوتر بالضرر.

 

آلية الموقع ومصادر الدخل

موقع “درودج” بسيط التصميم وقد شهد تعديلات مؤقتة وصغيرة نسبيًّا بما في ذلك استخدام جميع الصور بالأبيض والأسود في أغسطس 2017م، واستخدام النص الملون في نهايات الأسبوع بدلاً من اللون الأسود، ويتألف الموقع من عنوان رئيس وعددًا من العناوين الأخرى المحددة في ثلاثة أعمدة بخط أحادي، وترتبط معظم العناوين بأخبار ومواضيع منشورة في مصدر خارجي هو عادة ما يكون الإصدار الرقمي لصحيفة تستضيف الخبر، وعندما لا يتوافر مثل هذا المصدر – إما لأن القصة “تتطور” بتفاصيل غير معروفة ساعة النشر، أو بسبب كونها سبقـًا حصريـًّا – يتم إنشاء صفحة خاصة على الخوادم الخاصة بموقع تقرير درودج.

يتم وضع القصص في الموقع بحسب الأهمية ووفقًا لتقديرات “مات درودج” التحريرية، ودائمًا ما يحمل الموقع قصة واحدة رئيسة، وهي عادة ما تكون مكتوبة في جملة واحدة مرتبطة تشعبيًّا مع أهم قصة منشورة خلال اليوم في الموقع أو خارجه، ويتم نشر قصص أخرى حول نفس العنوان تكون مرتبطة بمقالات ومعلومات تتناول جوانب من القصة الرئيسة.

وتأتي إيرادات الموقع من الإعلانات التي ظلت تديرها شركة خارجية لمدة (20) عامًا، لكن بعد سنوات من عدم قدرة تلك الشركة على التغيير تحولت إعلانات الموقع  عام 2019م، إلى شركة جديدة هي شركة (Granite Cubed)، ويلاحظ أنه في الفترة التي أعقبت عمليات تغيير في الموقع انخفضت مقاييس حركة المرور للموقع بشكل كبير، ثم عادت وانتعشت لفترة وجيزة في مارس 2020م مع تصاعد جائحة كورونا، لكنها استمرت في الانخفاض إلى مستويات متدنية بعد ذلك.

وبعد تقرير لشركة “كومسكور” (Comscore) المتخصصة في القياس والتحليل الإعلامي، والذي أظهر انخفاضًا بنسبة (38%) من أغسطس 2019م إلى أغسطس 2020م، أسعد هذا الوضع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي غرد قائلاً:  “هذا فخر  كبير تقرير درودج انهار بنسبة (40%) منذ أن أصبح عبارة عن أخبار كاذبة”، والأهم من ذلك أن الموقع ينزف بغزارة ولم يعد ساخنًا.

هذه الواقعة تعيدنا إلى  عام 2006م، وقتها وفقًا لـ”مارك هالبرين” الصحفي الأمريكي المعروف، كانت  تغطية “درودج” تؤثر في التغطيات السياسية لوسائل الإعلام الكبيرة نحو ما أطلق عليه الجوانب الأكثر بروزًا في السياسة الأمريكية، وقد جاء ذلك في  كتاب “هالبرين” المشترك مع “جون هاريس” بعنوان: (In The Way To Win ).

في تلك المرحلة أُطلق لقب “والتر كرونكايت عصره” على “مات درودج” في إشارة إلى المذيع الصحفي الأمريكي الشهير، ولذلك يقول “كريس ليهان” الخبير الإستراتيجي بالحزب الديموقراطي: “إنه في عام 2006م، كانت الهواتف تبدأ في الرنين كلما نشر موقع درودج موضوعًا ما”، وقال “مارك ماكينون” المستشار الإعلامي السابق لجورج دبليو بوش: “إنه كان يقوم بزيارة الموقع من (30 – 40) مرة في اليوم”.

ووفقًا لبيانات التحليلات عبر الإنترنت لشهر أبريل 2010م، من وكالة (Newspaper Marketing Agency) كان تقرير درودج في ذلك الوقت هو موقع الإحالة الأول لجميع مواقع الصحف على الإنترنت في المملكة المتحدة، وفضلاً عن تأثيره الإعلامي، فقد أثر تصميم الموقع على عناصر التصميم وطريقة عرض الموضوعات في مواقع أخرى، بعضها له وجهات نظر متعارضة معه، والبعض الآخر يستخدم نفس التنسيق لإدراج الأخبار.

ومرة أخرى نعود إلى بدايات هذه التجربة الإعلامية المثيرة من خلال قصة صاحبها “مات دردوج”، الذي كان شخصًا غير  معروف قبل أن يبدأ مشروعه الإعلامي، فخلال سنوات عديدة عمل في وظائف غريبة، مثل بائع ليلي في بقالة “سفن اليفين” (7-Eleven) المعروفة، وعمل مسوقًا عبر الهاتف لكتب “تايم لايف”
(Time-Life)، ومديرًا في مطاعم “ماكدونالدز”، ومساعد مبيعات في بقالة في مدينة نيويورك.

وفي عام 1989م، انتقل إلى لوس أنجلوس ليحصل على وظيفة في محل بيع الهدايا لاستوديوهات “سي. بي. إس”، وشق طريقه في النهاية إلى منصب المدير، ومن هنا قد أصبح “مات درودج” على ما يبدو مطلعًا على النميمة والقيل والقال داخل الاستوديوهات، وهذا كان جزءًا رئيسـًا من الإلهام الذي حدث له لتأسيس تقرير دردوج.

ثم جرى له حدث آخر غير حياته في عام 1994م، عندما أصر عليه والده أن يقتني جهاز كمبيوتر لنفسه، ليبدأ “درودج” كتابة تقاريره على هذا الكمبيوتر ويقوم بإرسالها إلى عدد قليل من الأصدقاء، وكانت تحمل مزيجًا من الدردشة وموضوعات الرأي، وفضلاً عن البريد الإلكتروني كان يتمّ نشرها في منتدى النميمة في شبكة “يوزنت”.

وفي عام 1996م، انتقلت النشرة الإخبارية من النميمة الترفيهية إلى النميمة السياسية، ومن البريد الإلكتروني إلى الويب كآلية توزيع أساسية لها، ليتطور الأمر بها كواحدة من أهم المنصات التي تؤثر في السياسة والحياة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية.