ترجمة الدراما التلفزيونية الأجنبية في الوطن العربي: الراهن والمأمول

أ. د. فايزة يخلف

مقدمة

تشير المعاينة النقدية الأولية للبرامج التلفزيونية العربية إلى تنامي حصة الدراما التلفزيونية الأجنبية المترجمة مقابل الإنتاج المحلي، وهو ما يجعل من المشهد الإعلامي العربي موضع كثير من النقد والمساءلة الفنية والثقافية، بعض أوجه هذا النقد تتعلق بالوقوف على أسباب تراجع الدراما العربية المحلية بعد أن سادت في سنوات القرن الماضي، والبعض الآخر يدور حول مدى قدرة هذه الترجمة على بناء المعاني الاتصالية التي يستوجبها التلقي في الثقافة العربية، وهي الانشغالات التي تبلورت عمليـًّا في صيغة الإشكالات الآتية: هل تستجيب هذه الترجمة للضوابط الفنية والاحترافية التي تكفل عملية النقل الوفي والجيد للمضامين الأصلية للأفلام؟ وهل ترتقي هذه الترجمة إلى مستوى الرهانات التي ينتظرها المتلقي العربي؟ وإلى أي مدى استطاعت الشركات العربية المتخصصة في الترجمة والدوبلاج أن تنتج توافقـًا فنيـًّا دراميـًّا يتناسب بنفس القدر مع جودة العمل الأصلي ويحافظ على المصداقية الفنية للنسخة المرجعية؟

إن الإجابة عن هذه الإشكالات تقتضي من دون شك ضرورة وضع هذه الترجمة في إطارها المعرفي والعلمي المحدد لأساسيات عملها وضوابط اشتغالها، الأمر الذي يستلزم إجرائيـًّا التطرق إلى خصوصيات الترجمة “السمعية البصرية”، ومقتضياتها العلمية وشروطها العملية.

1-الترجمة السمعية البصرية: المدلول والأبعاد المفاهيمية

تندرج الترجمة السمعية البصرية (la traduction audiovisuelle) ضمن الترجمة لوسائل الإعلام الجماهيرية (Mass translation) وهي تختصُّ بمهمة ترجمة الأفلام والبرامج التلفزيونية وكل إنتاج سمعي أو سمعي بصري أجنبي(1)، الأمر الذي دفع بعض المتخصصين مؤخرًا إلى توسيع الأطر المفاهيمية لهذا الضرب من الترجمة ليشمل الوسائط الحديثة كالويب والأقراص المدمجة، وهي الأدوات الحديثة التي صاغت المكون السياقي الجديد لمفهوم ترجمة “الملتيميديا” (la traduction multimédia)(2)، حيث تتجلى مختلف أوجه التفاعل والتداخل بين الاتصال اللغوي وغير اللغوي.

ومتى جنحنا إلى التاريخ لهذه الترجمة كممارسة احترافية وجدناها ترتبط بالبدايات الأولى للسينما، حيث كانت في شكل “تكييف” (adaptation) يتم بمقتضاه شرح وتأويل لقطات السينما الصامتة في تلك الفترة(3)، ولكن مع انتعاش السينما العالمية وظهور الحاجة إلى تسويق الإنتاج السينمائي على نطاق واسع لتحقيق الربح من جهة والترويج لثقافات الشعوب من جهة أخرى انتشرت ظاهرة ترجمة المسلسلات والأفلام الأجنبية وهي ترجمة تتسم بأنها “ترجمة قياسية تحيد عن المكافئ اللغوي لتعمل على مسألة المعادلة الثقافية التي تتوخى التأثير في المتلقي(4).

وعلى ذلك، فإن التمييز بين هذه الترجمة وما سواها يكمن في أنها ترجمة انتقائية (sélective) بامتياز، يتم أقلمتها واختصارها وإعادة صوغها، الوضع الذي يفضي إلى جملة من الإستراتيجيات الإعلامية والتخاطبية كالشرح والتكثيف والنشاطات كالمراجعة وإعادة التشكيل(5).

يتأكد مما سبق أن هذه الترجمة أعقد من مثيلاتها، فهي تخضع لأنظمة دلالية/بصرية ولسانية مختلفة تتفاعل فيما بينها لتشكل شكلاً متكاملاً يأخذ في الاعتبار أصناف وأساليب الأفلام والمسلسلات المترجمة من جهة وطبيعة الجمهور المتلقي في خصوصياته السوسيوثقافية، عاداته وآفاق انتظاراته(6).

وفي خضم هذا التشعب المليء بالصعوبات والمحفوف بالمفارقات تفرض هذه الترجمة من دون غيرها إلزاميـًّا ضرورة مراعاة أربع مسائل رئيسية ومفصلية، هي:

أ-مسألة العلاقة بين الصورة والصوت.

ب-مسألة العلاقة بين اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها.

ج-مسألة العلاقة بين النظام الملفوظ والنظام المكتوب.

د-مسألة المواكبة الثقافية بخاصة عندما يتعلق الأمر بترجمة رموز التراث الأسطوري واللامادي للشعوب(7).

إن الحديث عن إكراهات هذا النوع من الترجمة يفيد بأنها ترجمة منفردة ومتميزة تقتضي استجماع كثير من القواعد المعيارية لتوليد المعنى بطريقة صحيحة ومنسجمة، إنها باختصار عمل استثماري في أساليب بلوغ الكفاية الدلالية والشمولية الممكنة للتواصل الفعال، وهو ما لا يتأتى إلا بتبني طرائق علمية وعالمية متعارف عليها.

2-طرق الترجمة السمعية البصرية

تتم الترجمة السمعية البصرية بطرق مختلفة، أبرزها:

أ-الترجمة الكتابية أو العنونة (sous-titrage)

ينبغي أن نشير في تصديرنا لهذا المبحث الفرعي إلى إشكالية الاضطراب الاصطلاحي الذي طال ترجمة لفظ (sous-titrage، sub-titling) الأوروبي ومقابله العربي الذي يتراوح بين الحواشي السينمائية، العنونة، الترجمة الكتابية أو “السترجة” وهو تعريب للفظ الفرنسي الذي يحيل في أبعاده الدلالية إلى أحد أوجه المثاقفة والحوار الحضاري بين الشعوب(8).

وفي اعتقادنا أن مصطلح “العنونة” أقرب للدلالة على المعنى الذي نرفقه بالبرنامج أو العمل الفني المترجم بأن نزيل عن متلقيه جهله باللغة في شكل عناوين تؤدي له المعنى وتظهر في صورة كتابة تحتل أسفل شاشة العرض.

ومهما يكن فإن العنونة أو الترجمة الكتابية هي ترجمة مكثفة لحوار في عمل سينمائي أو تلفزيوني أجنبي ناطق في لغته الأصلية تكون معروضة في أسفل الشاشة في اللغة المنقول إليها، وهي تعتمد إستراتيجيات الإيجاز، التركيب اللغوي البسيط والوضوح(9)؛ لأنها:

1-مقيدة بالزمن، زمن القراءة وزمن الكلام المسموع في مقابل كثافة المعلومات عبر الصور والأصوات والمصطلحات المتخصصة.

2-مقيدة بالمساحة على فضاء الشاشة، حيث يضطر المعنون إلى كتابة ترجمة ما يتلفظ به المحاور في الفيلم في مكان ضيق وفي زمن معلوم، وهي المهمة التي تزداد صعوبة بخاصة مع تبني الفضائيات لشريط الأخبار أسفل الشاشة.

3-ملزمة بأخذ المشاهد بعين الاعتبار(10).

وعلى الرغم من هذه الضوابط التي تقيد هذا النوع من الترجمة، فقد ساعدت على رواج كثير من الأفلام الأجنبية بما كانت تقدم للمشاهد من شروحات وتعليقات مكتوبة بلغة عربية فصيحة نمت ذوقه العام وجعلته يحافظ على مسافة بينه وبين محتوى الفيلم أو المسلسل، واعيًا ومدركـًا لطبيعة المضمون “الأجنبي”، ضمن مسعى يعزز الاطلاع على ثقافة الآخر مع الإبقاء على فواصل أو حواجز تحول من دون التماهي الكامل أو المطلق مع المضمون.

ب-الدبلجة أو الدوبلاج

الدبلجة (doublage) هي نوع من الترجمة التقنية تقوم على استبدال (substituer) أصوات الممثلين في الأثر السمعي البصري الأصلي – سواء كان فيلمًا أو مسلسلاً – بأصوات ممثلين يتحدثون لغة غير تلك التي أنتج بها(11).

يتضح مما سبق أن الدبلجة هي تركيب صوتي فوق آخر مستبدل في الأفلام والمسلسلات وهي وجه من التأثير والتقارب و”التطبيع” الثقافي واللغوي الهدف منه نقل لغة الفيلم الأصلية إلى لغة أخرى فيما يشبه “الترجمة الصوتية”(12)، ومصطلح “الدبلجة” ليس عربيـًّا، فاللغة إنما تبتكر مفرداتها من نسيج عطاء مجتمعها وأدائه، وبما أن الدبلجة ليس “منتجـًا” عربيـًّا بالمعنى التاريخي، فقد تمَّ استلاف المصطلح من كلمة “دوبلاج” (doublage) الفرنسية التي تشير إلى عملية تسجيل أو استبدال الأصوات في فيلم أو مسلسل في مرحلة ما بعد الإنتاج (Postproduction).

وقد تزامن ظهور الدبلجة مع تدشين حقبة “الأفلام الناطقة” وظهور الحاجة الملحة للاطلاع على سينما الآخر، وهو ما أسس في الآونة الأخيرة لحركة كبيرة في مجال دبلجة الأفلام الأجنبية في الوطن العربي، من خلال دبلجة أول مسلسل مكسيكي بعنوان “أنت أو لا أحد” عام 1991م، والذي عرف نجاحًا غير متوقع، وتلته موجة المسلسلات التركية اعتبارًا من عام 2007م.

كما شملت الدبلجة – أيضـًا – الأفلام الهندية والكورية مما جعلها أحيانــًا تحيد عن مساراتها وتنغمس في فوضى فنية وثقافية ناجمة عن عدم فهم ضوابط وإكراهات هذا النوع من الترجمة، وما لذلك من أثر في المتلقي في المجتمعات العربية.

ها هنا كان لزامـًا علينا الوقوف على إكراهات وشروط هذا العمل الترجمي والآليات التي تجعله يحقق وحدة تمثيلية فنية توجد في ذهن المؤول معادلاً مكافئــًا، وهي على وجه التحديد:

-مسألة التزامن (la synchronicité)

لقد طرحت مسألة إعمال آليات التزامن في الدبلجة سجالاً علميـًّا وفنيـًّا كبيرًا في الأوساط النقدية، فهل أن التزامن يتعلق فقط بأطر مسايرة توليد السرد والتصوير والتصويت فحسب؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى القفز على الثغرات الاتصالية التي يمكن أن تؤثر في نقاء وسلامة الدبلجة، وهي النقائض التي تتجلى واضحة فيما يسميه خبراء الترجمة “بعيوب المطابقة اللغوية وغير اللغوية”(13) كتفعيل دور نبرة اللغة
(le ton du langage)، ومطابقة حوار المدبلج مع الحوار الأصلي للفيلم في بداياته ونهاياته وآثاره وانطباعاته(14)، وهو ما يشكل تحديًا كبيرًا في الوطن العربي نظرًا
لما يلي:

1-صعوبة إيجاد ممثلين محاورين (dialoguistes) بنفس خامات وحضور ممثلي النسخة الأصلية، الأمر الذي يؤثر في عملية بلوغ المستوى التفاعلي المفترض في سيرورة الإقناع.

2-صعوبة نقل مسألة الغيرية (Altérité) كقيمة وجودية محددة لانتماء ثقافي بعينه(15)، فالثقافة لا تتحدد باللغة فقط، وإنما هي كل متكامل منظور إليه في ذاته ولأجل ذاته(16)، وهو يشمل الأسماء والألقاب والطقوس والعادات والممارسات الدينية والعرفية، الأمر الذي يجعل مسألة نقل كل هذه الأرصدة الثقافية مهمة ليست بالهينة.

3-صعوبة إحداث الانسجام والتوافق بين مستويات القصة الدرامية ومدلولاتها من جهة وتوالي اللقطات ونوعيتها من جهة ثانية، الأمر الذي ينتج تنافر دلالي بين مضمون الصورة ودلالات الحوار – أي الجمل اللفظية – بخاصة إذا علمنا أن مكون الجملة أو المقطع التعليقي في الحوار ومكون الصورة أو اللقطة التصويرية يجتمعان في توافق دلالي ليملأ حدود الفراغ النصي في العمل الفني ويحققان ما يسميه “كاندينسكي” (Wassily Kandinsky) “بالضرورة الفنية الداخلية”(17) التي تتجه إلى الروح والوعي أكثر مما تتجه إلى العين.

واستجماعًـا لما سلف ننتهي إلى أن واقع الدبلجة في الوطن العربي يحتاج إلى كثير من المراجعة وتضافر الجهود للارتقاء بهذا العمل إلى مستوى الاحترافية التي تتوافق وأفق انتظارات المتلقي العربي وهو ما لا يتسنى إلا بالاحتكام إلى:

3-قوانين الاشتغال الجمالي والفني للدبلجة

بالاستناد إلى قوانين الاشتغال الجمالي والفني للدبلجة، يمكن القول : إن ما تقوم به بعض الدول العربية في هذا المجال هو ارتجال فني أكثر منه حركة ترجمة احترافية، وهو الوضع الذي يكشف عن الفارق الكبير بين ما هو كائن وما يجب أن يكون في هذا الإطار.

إن الحديث عن مستلزمات هذه الترجمة يعني الكشف عن جملة المعوقات التي تعترض سبيل المؤسسات العربية المتخصصة في هذا النوع من الترجمة من أجل أداء مهمتها على نحو صحيح، وهي:

-الرؤية العربية السطحية التي تعتبر الترجمة السمعية البصرية واسطة فنية أو ترفـًا جماليـًّا، متجاهلة ما توليه الدول الغربية من عناية فائقة للنسق المعرفي الكلي المؤطر لنظريات وأبحاث هذا النوع من الترجمة.

-غياب حدود التوجه المهني المنظم لهذا النوع من الترجمة، الأمر الذي يسفر عن غموض وتداخل مهام كل من المترجم (traducteur)، المؤقلم (adaptateur) والمعاين (repérateur)، وهي مهام متفاوتة في مهن الترجمة السمعية البصرية(18).

-الابتعاد عن الترجمة التي تعتمد على توظيف اللغة العربية الفصحى كما في البدايات الأولى للدبلجة، وتكثيف توظيف اللهجات المحلية، مثل اللهجة اللبنانية، والمصرية والمغربية، والخليجية في دبلجة الأفلام الهندية وهو ما أحدث لدى المشاهد العربي ما يشبه التشظي بين مضمون الفيلم الأصلي واللغة التي يعرض بها.

فبعد أن كانت الدبلجة تتم بلغة عربية فصيحة خاضعة لمراجعة وتدقيق متخصص، تلونت شاشاتنا العربية بلهجات مختلفة أقحمت عنوة في أفواه نجوم الأفلام والمسلسلات الأجنبية، الأمر الذي أساء إلى جمالية اللغة وقدرتها على الابتكار الراقي القادر على تفعيل مهارات الاتصال في هذا النوع من الترجمة، فمعلوم أنه إذا استقام اللسان، وعلا البيان، دل ذلك على حكمة الإنسان ورقي الوجدان.

خاتمة:

نخلص مما سبق إلى أن ترجمة الدراما التلفزيونية الأجنبية في الوطن العربي ممارسة قدمت للمتلقي المحلي منتوجـ،ًا يتحدث لغته ولكنها في المقابل جعلت منه كائنـًا منقسمًا على نفسه من خلال قيامها بتشطيره إلى مستمع ومشاهد منفصلين.

والحقيقة أن على المؤسسات العربية المتخصصة في هذا المجال، إذا أرادت أن تقدم من خلال هذه الترجمة ميزة فنية وثقافية للمتلقي العربي، أن تحرص على مراعاة حسـّه النقدي وذوقه الجمالي، فهما وحدهما من يحدد ممارسة القبول أو الرفض لهذا الفعل الترجمي.


المصادر
(1) Yves Gambier: la traduction audiovisuelle: un genre en expansion, édition Septentrion, Paris, 2000, p11.
(2) Idorno Ranzato: La traduzione audiovisio, Bulzoni editore, Rome, 2010, p23.
(3) Lucien Merleau: La traduction audiovisuelle: pour une classification scientifique, édition Dunod, Paris, 2012, p8.
(4) Ibid., p9.
(5) Claude Heiss: la traduction audiovisuelle dans le cinéma la télévision et la scene, édition Dunod, Paris, 2010, p50.
(6) Ibid., p51.
(7) Ibid., p52.
(8]) منار رشدي أنور، إشكالية ترجمة المنظور الثقافي في السينما، دار النهضة العربية، بيروت، 2009م، ص3.
(9) Marianne Lederer: le sous-titrage: langue et statut, édition Gallimard, Paris, 2008, p21.
(10) Ibid., p23.
(11) Louise Dumas: le doublage filmique, édition P.U.F, Paris, 2007, p33.
(12) Ibid., p35.
(13) Christian Viviani : le doublage et les transferts culturels, édition Payot, Paris, 2013, p61.
(14) Ibid., p62.
(15) Ibid., p63.
(16) Ibid., p64.
(17) Antoine Goris: The question of foreign dubling, édition Routledge, London, 2006, p29.
(18) Emmanuel Plasseraud: théorie de la réception filmique dans le monde arabe, édition Presses Universitaires du Septentrion, Paris, 2011, p71.