الواقع الافتراضي والقوة الناعمة

قصص الدول في استخدام القوة الناعمة مختلفة، ولكنها ذات طابع مميز، ففي اليابان كان الارتكاز على المحافظة على قيم المجتمع على الرغم من التطور الاقتصادي الكبير، بينما اعتمدت الهند على إنتاج أفلام “بوليوود” لإبراز الدولة كمصنع للكفاءات التقنية والترويج لبعض المأكولات الشعبية عالميـًّا، وتمثلت القوة الناعمة للمملكة المتحدة في دور المجلس الثقافي البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية للترويج لها حول العالم وكذلك تعزيز استخدام اللغة الإنجليزية عالميـًّا، أما رائدة القوة الناعمة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت أفلام “هوليود” علامة فارقة في قوتها الناعمة، والتي صنعت الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة وقوتها العسكرية ومدنها العصرية.

القوة الناعمة بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، الدكتور جوزيف ناي، استخدام وسائل الجذب والنفوذ للتأثير في الرأي العام لتحقيق مصالح الدول بدلاً من استخدام القوة العسكرية، وهي في تطور واهتمام عالمي مستمر، كونها أداة لتحقيق المصالح بالاعتماد على الثقافة والتعليم والإعلام وغيرها من أدوات الجذب.

اليوم تتطور أدوات التواصل حول العالم، ومع دخول العالم لمرحلة الإعلام الغامر (Immersive Media) والتي بدورها تستطيع إلى حد كبير إيهام العقل بتواجده في الأماكن التي يشاهدها عبر نظارة الواقع الافتراضي، يطرح تساؤل حول كيف يمكن استخدام تقنية الواقع الافتراضي كقوة ناعمة؟

 بالاطلاع على عدد من الممارسات العالمية، نجد عددًا كبيرًا من الاستخدامات، ففي مجال الترويج للدول والوجهات السياحية على سبيل المثال؛ نلاحظ ازدياد عدد زوار مدينة نيويورك بعد حملة أطلقتها وكالة “توماس كوك” للسفر والسياحة البريطانية، حيث ارتفع عدد الزيارات بنسبة (190%)، وارتفع العائد على الاستثمار (40%)، بينما يمكن تجربة زيارة مدينة ملبورن الاسترالية والتجول عبر منطاد ومشاهدة المزارع وأبرز معالم المدينة عبر يوتيوب الواقع الافتراضي (YouTube VR)، فيما يكمن لأي شخص لم يسبق أن زار العاصمة البريطانية لندن زيارتها افتراضيـًّا ومشاهدة أبرز معالم المدينة من مسارح وفعاليات ثقافية وترفيهية  بتقنية (360) درجة مما يعطي شعورًا بتواجده فيها، وما ينطبق على الزيارات الافتراضية للمدن ينطبق تمامـًا على توظيف التقنية ثقافيـًّا، حيث عمد متحف اللوفر على سبيل المثال إلى تطوير تجربة افتراضية لمشاهدة لوحة الموناليزا عبر الواقع الافتراضي، وذلك بمناسبة ذكرى الـ(500) عام على وفاة الفنان والعالم الإيطالي ليوناردو دا فينشي، ما زاد من مشاهدات مقتنيات المتحف عالميـًّا.

ما يحدث اليوم عبر منصات الواقع الافتراضي هي البداية لمرحلة جديدة في التواصل العالمي، وتعرف الشعوب على بعضها، والاطلاع على قصص لم ترو وكنوز لم تشاهد من قبل، كل ذلك يفتح نوافذ جديدة لاستخدام تقنية الواقع الافتراضي كقوة ناعمة تسهم في تحسين الصورة الذهنية للدول من أجل تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية بأقل التكاليف وأكثرها تأثيرًا.