المحتوى متعدد الحواس

عبد الله مغرممستشار ومتخصص في تقنيات الإعلام التفاعلي

قبل عدة سنوات وخلال زيارة العاصمة الهولندية أمستردام كانت ليّ أول تجربة مشاهدة محتوى متعدد الحواس يعتمد على أكثر من حاستي السمع والبصر، حيث كانت التجربة في متحف “هذه هولندا”.

كانت التجربة تتلخص في شرح تاريخ هولندا من خلال غرفة سينمائية محدودة الحجم في المتحف، بحيث يطلب من كل زائر (مشاهد) ربط حزام الأمان المخصص له في المقعد، ومن ثم تتقدم مقاعد المشاهدين مسافة أمتار محدودة قبل بدء الفيلم، والمقاعد عبارة عن صف واحد مشترك لحدود (10) أشخاص، ثم يبدأ الفيلم بشرح تاريخ هولندا، ومع كل مشهد من مشاهد الفيلم تكون المؤثرات حسب الموقف، فعند زيارة حقول الورد كانت رائحة الورد تفوح طبقـًا للمشهد وتختفي بعد انتهاء المشهد، وعندما يتخلل المشهد زيارة لمزارع تفوح رائحة شبيه بالمحتوى، بينما يتساقط الرذاذ عند مشاهدة محتوى  الأمطار، أما عندما كان الحديث عن الناقل الوطني في الجو فكانت نفحات الهواء على الحضور، وخلال مختلف المشاهد كان الحضور يتأرجحون في الهواء الطلق وفي مختلف الاتجاهات صعودًا وهبوطًا وفي مختلف الاتجاهات بحسب المحتوى المشاهد عبر الشاشة السينمائية نصف الدائرية.

كانت التجربة جميلة ومختلفة، فمن ناحية كانت مسلية وممتعة ومن ناحية أخرى وأهم بقيت القصة عالقة في الذاكرة لا لشيء أكثر من أنها رويت بشكل مختلف، وتمـَّت إضافة مؤثرات مختلفة تعزز من الحضور الذهني في القصة، ولم تستند على الطريقة الكلاسيكية في إنتاج المحتوى والمتمثل في التركيز على حاستي السمع والبصر.

خلال العقود الماضية أرتكز المحتوى الإعلامي على حاستين فقط، وهما السمع والبصر، ويعود ذلك إلى أن تفعيل الحاستين في المحتوى أسهل من توظيف الحواس الثلاث المتبقية، وهي اللمس والشم والتذوق، وهو ما يفسر كذلك تطور التقنيات المرتبطة بالنظر كالشاشات بشكل أكبر من التطور الذي يحدث في حاسة السمع وبقية الحواس.

اليوم يواجه الإعلام وصناعة المحتوى ثلاثة تحديات إستراتيجية، يتمثل الأول في حجم المحتوى الذي يتم صناعته يوميًّا ومشاركته عبر مختلف منصات العرض بما في ذلك المنصات الرقمية، بينما يتمثل التحدي الثاني في إمكانية جذب اهتمام المشاهد أو الجمهور المستهدف للمحتوى، وأما التحدي الأخير فهو مواكبة لغة صناعة المحتوى من حيث التطورات التقنية وإمكانية توظيفها في المحتوى، وهذه التحديات تقود إلى تساؤل مهم يتمثل في كيف يمكن تطوير صناعة المحتوى مع الأخذ في الاعتبار التطورات التقنية ومسارات تفاعل واندماج المشاهد مع المحتوى؟

تهدف أهمية توظيف الحواس في المحتوى إلى تطوير طريقة عرض القصة، ونقل المشاهد من مرحلة مشاهدة المحتوى إلى الإحساس به، أو بلغة أخرى أن يصل المشاهد إلى مرحلة يشعر فيها أنه جزء من القصة، وبذلك يقل تأثير العنصر الوسيط في نقل الرسالة وزيادة استيعاب المشاهد للمحتوى ورفع تأثير المحتوى، والأهم من كل ذلك إيصال الرسالة الإعلامية للجمهور المستهدف، ويمكن مشاهدة هذه التحولات في مجالين رئيسين:

المجال الأول: تطوير طريقة عرض الأفلام السينمائية

ظهرت تقنيات في الآونة الأخيرة تتيح توظيف الحواس الخمس في المحتوى، ويتمثل ذلك في توظيف حاسة اللمس من خلال تحريك المقعد، وإضافة حاسة الشم وبقية المؤثرات مثل الأمطار والرياح والثلج وغيرها، ليتسنى للمشاهد استيعاب القصة بشكل أفضل، وتشق هذه التقنية طريقها عالميًّا، حيث تتوافر اليوم في أكثر من (65) دولة حول العالم، وبات بعض الأفلام السينمائية العالمية متوافرة بذات التقنية، وتمكن الملايين حول العالم من مشاهدة المحتوى بهذه الطريقة الجديدة، مما يفتح نوافذ جديدة، ويضمن استمرار دور السينما في تقديم رسالتها مع التطورات الإعلامية التقنية الأخرى والتي باتت منافسة للسينما في مجال إنتاج وعرض المحتوى.

المجال الثاني: التطور الضخم الذي حصل في تقنيات الإعلام الغامر وبخاصة تقنية الواقع الافتراضي

باتت طرق توظيف بعض الحواس الخمس أو جميعها في المحتوى واردة جدًّا وبإمكانات متاحة للأفراد، حيث تتوافر تقنيًّا منتجات لتوظيف حاسة أو أكثر في المحتوى مثل توظيف حاسة اللمس في المحتوى، ويمكن تنفيذها من خلال مقعد بخاصية الاهتزاز أو ارتداء ملابس متخصصة ترتبط بنظارة الواقع الافتراضي، أما تفعيل حاسة الشمِّ فيمكن أن تتمَّ من خلال منتجات لتعزيز حاسة الشم ترتبط كذلك بنظارة الواقع الافتراضي، إضافة إلى توافر كثير من التقنيات التي تمكن من مشاهدة المحتوى بتوظيف الحواس الخمس، مثل غرف صغيرة يمكن للمشاهد من خلال تواجده فيها من الإحساس بمختلف المؤثرات، مثل الشم واللمس والحرارة وغيرها من المؤثرات التي تنقل المشاهد لمراحل جديدة في استيعاب المحتوى والتفاعل معه.

اما على مستوى تفعيل الحواس في الواقع الافتراضي، فسبق تجربة مشاهدة محتوى تمَّ خلاله تفعيل أربع حواس في المحتوى، بالإضافة إلى السمع والبصر إذ تمَّ تفعيل حاسة الشم واللمس، حيث كانت الأفلام متنوعة وبمجرد الاطلاع على مشهد محدد يتم تفعيل إما حاسة اللمس أو الشمّ في المحتوى مثل الحرارة للتوعية بحرائق الغابات والروائح العطرية عند مشاهدة محتوى ذي علاقة بالغابات ورائحة عوادم السيارات خلال مشهد للسير في المدينة وغيرها من المؤثرات، وكانت النتائج مذهلة من حيث حجم التأثير والإحساس بمستوى عالٍ من التفاعل، وهو ما يفتح مسارات جديدة للتفاعل مع المحتوى بالشكل الذي سيطور من طريقة عرض المحتوى وإبراز القصة بشكل مختلف وليكون المشاهد أو المستخدم جزء منها، والسؤال الأهم كيف يمكن توظيف الحواس في المحتوى؟

توظيف الحواس الثلاث المتبقية يمكن أن يتم بناءً على أهمية الحاسة في المحتوى، ويكون ذلك من خلال استيعاب كيف تعمل الحواس وطريقة تفاعلها مع البيئة الخارجية وطرق تحليلها للمعلومات وإرسالها للدماغ البشري، فعلى سبيل المثال؛ تعد حاسة الشم أسرع تأثيرًا وترتبط بشكل كبير بالذاكرة، بينما تكمن أهمية تفعيل حاسة اللمس في الرفع من درجة شعور المشاهد بحسب المحتوى، مع الأخذ في الاعتبار مراعاة المدة الزمنية بين تفعيل ذات الحاسة لتحقيق تأثير عالٍ خلال تفعيلها في المحتوى، ويبقى التحدي الأكبر كيف يمكن كتابة القصة في ظلِّ تفعيل جزء من الحواس الثلاث المتبقية أو جميعها؟

الحقيقة أن لغة كتابة المحتوى بتفعيل الحواس الثلاث المتبقية لا زالت غير متوافرة علميًّا، لكن تتم تجربتها عمليًّا بشكل مستمر.

الخلاصة:

تعزيز تفاعل المشاهد مع المحتوى يُعدُّ نقطة تحول مهمة في صناعة المحتوى والتي بدورها ستنقل المشاهد لمراحل جديدة من الإحساس والتفاعل مع المحتوى وهو ما يتطلب الاستعداد للمرحلة القادمة من خلال تطوير الأدوات الإعلامية وإعادة تقييم طرق كتابة المحتوى، والاستفادة من التجارب الناجحة في توظيف الحواس في المحتوى في قطاعات أخرى، مثل التسويق والألعاب لفتح آفاق جديدة بالشكل الذي يعزز من وصول الرسالة الإعلامية للشرائح المستهدفة، مع الأخذ في الاعتبار لغة العصر والتحولات الحديثة في صناعة المحتوى.