عن صحافة “العدوى”

د. نصر الدين لعياضي

ماذا لو بُعث عالم الاجتماع الأمريكي “جورج هربت ميد”، واستمع بملء أذنيه إلى المختصين وهم يصفون ممارسات الصحافة المعاصرة  بمصطلحات ومفاهيم عديدة ومتنوعة، هل يصاب بالذهول من كثرتها أو الغبطة بصحة ما ذكره منذ ما يربو عن قرن؟ حين أكد في عام 1926م، بأنه لا وجود سوى لنوعين من الصحافة: صحافة الإعلام، وصحافة السرد والقص، فالصحافي لا يُرْسَل في الغالب لنقل الوقائع بل للحصول على قصة.

إن تزاحم وتنوع المصطلحات والمفاهيم التي تعبر، بشكل أو بآخر، عن تطور الممارسة الصحفية مع ميلاد “الواب”، خاصة جيله الثاني، تدفع للتأمل مليًّا فيما قاله عالم الاجتماع “ميد”، ولست أدرى هل نوفق في جرد كل مسميات الصحافة المعاصرة إن حصرناها فيما يلي: الصحافة الجديدة، وصحافة الإنترنت، وصحافة الواب، والصحافة التساهمية، وصحافة المواطن، وصحافة المصادر الشعبية، والصحافة الإلكترونية، وصحافة الويكي، وصحافة البيانات، والصحافة الرقمية، وصحافة “الموبايل”، وصحافة الوسائط المتعددة، وصحافة المواءمة (Convergence)، وما بعد الصحافة (Post-journalism)، وأخيرًا صحافة العدوى.

ماذا؟.. العدوى؟! وما دخل العدوى في العمل الصحفي؟!!

أو بالأحرى كيف “تسللت” العدوى إلى العمل الصحفي؟!.

ما العدوى؟

تجمع قواميس اللغة العربية القديمة والحديثة على معنى فعل أعدى، إذ تؤكد بأن “أعدى فلانـًا من خُلُقه أو مرضه: أصابه بالعَدْوى، أي نقل إليه المرض أو الخُلُق، وأكسبه مثلَه حُمَّى مُعْدية”، فالعدوى هي انتقال المرض من مصاب بداء إلى شخص سليم، فيصبح بدوره مصابًا به بوسَاطةٍ ما، مثلما هو الأمر اليوم مع جائحة (كوفيد – 19)، وانتقلت العدوى إلى الاستعمال في الحقل المجازي، فأصبحنا نسمع “بعَدْوَى الفساد”، و”عَدْوَى الغش في الامتحانات”، وعَدْوَى التحايل على القوانين”، وغيرها، لكن لا أحد كان يعتقد أن العدوى تصل إلى عالم الصحافة.

تؤكد القواميس في اللغات الأجنبية على أن أصل كلمة العدوى “فيروس” (Virus) يعود إلى اللغة اللاتينية، وانتقلت إلى تداول من عالم الطب إلى عالم المعلوماتية في عام 1984م، لتدل على البرمجيات القادرة على التسلل إلى المنظومة الإعلامية لتعطّل أدائها أو تبدد بياناتها أو تخربها، ومنها انتقلت إلى التداول في مجال التسويق، فأصبح يقال “التسويق المعدي”
(viral Marketing) الذي أزداد انتشارًا بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، فعرّفت العدوى في عالم التسويق بأنها: “التوزيع المفاجئ وغير المتوقع لبعض المحتويات المتعلقة بالسلع والخدمات والمنشآت من دون معرفة مصدرها”.

لذا لا وجود للعدوى من دون بثّ أو إعادة توزيع، ويسلك مسار العدوى في مواقع التواصل الاجتماعي المخطط التالي: “مصدر ما ينشر أو يبثّ مضمون ما في شكل نص قصير أو تسجيل صوتي، أو مقطع موسيقي، أو أغنية، أو صورة أو شريط فيديو أو مادة صحفية” تتضمن بعض هذه العناصر التي تكونها إلى مشترك أو مشتركين في موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، وليكن “الفيسبوك، أو تويتر، أو اليوتيوب أو إنستغرام”، فيتقاسمونها مع أصدقائهم ومعارفهم، ويقوم هؤلاء بدورهم بنشرها وتوزيعها على معارفهم، وهكذا تتسع حلقة انتشارها.

لقد استفادت العدوى الرقميّة من “علم الشبكات الجديد” الناشئ على يد الباحث “واتس دنكن” (Watts Duncan)، و”علم الواب” على يد الباحث “هندلر جيمس” (Hendler James)، وآخرون.

أسهم الإشهار والتسويق في تطوير قياس نسبة العدوى التي تحظى بها بعض المحتويات، والذي يأخذ بعين الاعتبار بعض المتغيرات مثل عدد الأشخاص الذين أوصوا بالاطلاع على المحتوى المتداول، أو عدد الذين حمّلوه أو شاركوه مع غيرهم، وأخيرًا عدد الذين اطلعوا عليه، وقد جنى التسويق والإعلان من هذا القياس فائدة كبرى، تتمثل في “شخصنة” رسائلهما، أي توجيهها إلى أشخاص بعينهم، ومتابعة صداها بشكل أسرع وأدق.

عدوى الأخبار

إن مجال العدوى ليس محصورًا في مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن للميديا التقليدية نصيبها من العدوى، فقد ولجت حقل الإعلام والاتصال مؤسسات مختلفة لا علاقة سابقة لها بالأخبار، فزادت في فيضها بشكل أصبح من الصعب مواكبة تدفق الأخبار عبر الحوامل المتعددة والمتنوعة، واشتدت المنافسة بينها ليس من أجل إبلاغ أكبر عدد من الجمهور  بمستجدات الأحداث، بل بدفع هذا الجمهور إلى إعادة توزيع الأخبار والترويج لها، ففي خضم هذه المنافسة ظهرت “صحافة العدوى”.

يؤكد الباحثان  (دوماجو بيبي Domagoj Bebić)، و(ماريجا فلاررفيك  Marija Volarević) بأن المثال الأبرز عن صحافة العدوى هو موقع “بوز فيد” (BuzzFeed)، في شبكة الإنترنت الذي تأسس في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 2006م، ثم جرى تدويله بعد خمس سنوات، أي أصبح موقعًا دوليًّا بعد صدور طبعته البريطانية والكندية والهندية والأسترالية والفرنسية في عام 2013م، ثم الإسبانية والألمانية في عام 2014م، والمكسيكية واليابانية في العام الذي يليه، واعتبر هذا الموقع أشهر موقع عالمي بالنظر إلى الإحصائيات عن زواره ومستخدميه، ومواده التي أعيد توزيعها.

وحسب رئيس تحرير طبعته الفرنسية “بن سميث” فإن “موقع بوز فيد” (BuzzFeed) يركز على المواضيع التي تتجاهلها الصحف الفرنسية؛ أي المواضيع الخفيفة والطريفة والمازحة التي تحرر بجمل مختصرة وتساؤلية، وبعناوين جذابة ومبتكرة ومثيرة تسرد قصصًا شيقة تارة وصادمة طورًا.

وقد اقتفى موقع صحيفة “هافينتون بوست” (Huffington Post) أثر موقع “بوز فيد” ليتحولا إلى نموذج لصحافة العدوى.

إنّ صحافة العدوى تمثل شكلاً جديدًا من الصحافة وجدت لتستقطب انتباه المستخدمين في ظل بروز “اقتصاد الانتباه”، وتوزع عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما يتطلب تفاعل المستخدمين معها، أي أنها تعتمد على ديناميكية المواقع وانتشارها، وعلى دور المستخدم في توزيعها واقتسام محتواها، وتستند إلى سرد الأخبار بلغة بسيطة وإيجاز حتى لا تأخذ من وقت المستخدم الكثير.

وإن استلهمت صحافة العدوى من الصحافة الصفراء التي ظهرت في عام 1890م بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي عملت على رفع عدد مبيعاتها بخفض سعرها، والإسراف في نشر الأخبار الطريفة والمثيرة والاستثنائية، مثل السرقات والجرائم والفضائح الأخلاقية، والتركيز على المحتوى العاطفي والحسي للأحداث أكثر من قيمتها الإخبارية، واستعمال لافتات عريضة للعناوين، والرسوم التوضيحية المختلفة، إلا أنها تختلف عنها وذلك لأن الصحافة اليوم تعيش تحولات كبرى مستفيدة من المبتكرات التكنولوجية المختلفة: الوسائط المتعددة، الاستعجال في نقل الأحداث لحظة وقوعها، والسرعة في إعادة صياغة الأخبار وتجديدها لتواكب الأحداث، وتتمتع بتعدّد حواملها، خاصة المتنقلة منها، التي حرّرت المستخدم من عائق المكان والزمان.

كل هذا يدفع الأخبار اليوم لتكون معدية، بمعنى أنها تغري المستخدم على نشرها في مواقعه الإلكترونية أو صفحته، واقتسامها مع أصدقائه في موقع التواصل الاجتماعي، وتحمّيلها، أو التعبير عن إعجابه بها، أو استيائه من مضمونها، والتعليق عليها لحظة نشرها.

وحتى ندرك جيدًا سياق ظهور هذا النموذج من الصحافة لا بد من العودة إلى مراحل تطور الصحافة كما وصفها الكاتبان المذكوران، إذ أكدا بأن المطبعة أسهمت في ميلاد الصحافة الورقية، وأسهمت الإنترنت بفاعلية في تطور الصحافة عبر الخط، ومواقع التواصل الاجتماعي والعُدّة التقنيّة المتنقلة، خاصة الهاتف الذكي الذي رسخ التغيير المعدي في الصحافة.

ففي هذا الإطار يمكن التذكير بالدراسة المسحية التي قام بها معهد “رويترز” في عام 2015م، وشملت (12) بلدًا و(20) ألف شخصًا، من أجل رسم خريطة بيئة الأخبار المتغيرة. لقد وقفت هذه الدراسة على الدور الرئيس الذي قام به الهاتف الذكي في زيادة استخدام الميديا الاجتماعية، وفي تقاسم الأخبار ومناقشتها.

 إذًا، إن صحافة العدوى تكشف عن التغيير الكبير الذي طرأ على العمل الصحفي، بدءًا من طرائق جمع البيانات، وتعدد مصادرها وتنوعها، وثراء المواضيع والأحداث التي يتطرق إليها، وتنوع أشكال تحرير المادة الصحفية وسردها وعرضها، واستهلاكها الذي يرتكز على شعبية مواقع التواصل الاجتماعي والدور الأساسي الذي يقوم به المستخدم في نشرها، وما ما يترتب على توزيعها من رد فعل مما يجعلها مشخصة أكثر، أي موجهة لشريحة من المستخدمين بعينهم نظرًا لتطابقها مع اهتماماتهم وخصوصيتهم.

السر

يظل سبب انتشار بعض الأخبار واتساع رقعة عدواها دون سواها من الأسرار التي سعى الكثير من الباحثين إلى الكشف عنها من خلال تحليل مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، وتقنيات الإنزال الإعلامي وتكثيفه في مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم يوفق هؤلاء الباحثين التوفيق كله في ذلك، إلا أنهم استطاعوا أن يبيّنوا بعض العوامل التي تساعد على ذلك، مثل: تقليد الأصدقاء والمعارف ومشاركتهم ما يطلعون عليه ويتابعونه في شبكة الإنترنت، والتوصيات والنصائح التي يسديها بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى معارفهم وأصدقائهم الافتراضيين لمتابعة هذا المحتوى أو ذاك، وهذا العامل يذكرنا بنظرية انتقال المعلومات عبر مرحلتين للباحثين “إليهو كاتز” و”بول لازرسفيلد” اللذان  تأكدا من الافتراض بأن لوسائل الإعلام تأثير محدود على الجمهور، وذلك لوجود وسيط يتدخل بينهما، ويتمثل في قادة الرأي الذي يؤثرون على أتباعهم، ويوجهونهم صراحة أو بشكل ضمني نحو المواد الإعلامية والثقافية التي يفضلون الاطلاع عليها، وما يفكرون في مضمونها، وقد تراجع دور هؤلاء القادة اليوم لصالح المؤثرين، هذا فضلاً عن عامل آخر، يتمثل في الموقع الذي ينشر فيه الخبر، فإن كان في الصفحة الرئيسية لموقع في شبكة الإنترنت، فحظه من الانتشار يكون أكبر، وكذا جِدَّة الأخبار، فالأخبار الأنية تحظى بإقبال أوسع في مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا مع العلم بأن الباحث “توماس بوفيزاج” (Thomas Beauvisage) يؤكد بأن موضوع الجدّة يمثل معضلة في صحافة العدوى، فمن جهة يمكن التأكد بأن الخبر الجديد يحظى بمتابعة لحظة نشره أكثر من الأخبار القديمة التي تعد في عرف ممتهني الصحافة التقليدية أخبارا ميتة، ومن جهة أخرى تأخذ العدوى شكل منحنى، يبدأ بمجرد نشر الخبر، ويرتفع تدريجيًّا إلى غاية بلوغه الذروة ثم يبدأ في الانخفاض إلى غاية نهاية العدوى، ويأخذ هذا المسار بعض الوقت، بمعنى أن منحى الخبر يتصاعد كلمًا فقد بعضًا من جدّته وظل منشورًا مدة من الزمن!.

لقد حاول بعض علماء الاجتماع رصد انعكاسات صحافة العدوى على الحياة الاجتماعية والثقافية، ففي هذا الصدد تنبأ الكاتب “رشكوف” مبكرًا في كتابه “فيروس الميديا، الأجندة المنسية في الثقافة الشعبية”، الصادر في عام 1994م بنيويورك، بمفعول العدوى، إذ أكد بأن الأحداث الإعلامية التي تؤدي إلى تغيير اجتماعي حقيقي هي فيروسات ميدياتيكية. إنها تنتشر في الجسم الجماعي مثلمًا ينتشر الفيروس البيولوجي، فبقدر ما تكون الصورة أو الأيقونة استفزازية تسافر بسرعة أكبر في فضاء البيانات، ويعتبر اهتمامنا وافتتانا بها مؤشران يدلان على أننا ثقافيًّا لا نملك “مناعة” ضد هذا الفيروس الجديد.  

يبدو أن القليل من الباحثين حاول رصد تأثير صحافة العدوى على الصحافة بشكل عام وعلى ظيفتها في المجتمع، إن استثنينا الذين ربطوا ارتفاع نسبة الأخبار المزيفة بانتشار صحافة العدوى.

معيار النجاح

لقد أصبحت “العدوى” معيار نجاح الأخبار الأساسي الذي يكاد يكون الوحيد، لذا راحت صحافة العدوى تستعمل مختلف الحيل من أجل الحصول على أكبر عدد من “الكبسات” التي تعبر عن إعجاب المستخدم بها، أو تلك التي تخبر عن إعادة توزيع ما تنشره أو تعيد تغريده (Retweet).

لقد أسهمت صحافة العدوى بفاعلية في تغيير جينات الأخبار وحامضها النووي، فلم يعد التركيز على الأحداث وعلى ما جرى وبالنظر إلى واقعيتها، بل أضحى الاهتمام يتمحور على ردود الفعل على ما جرى، وذلك لسببين، أولهما تقني، ويرتبط بخصوصية الوسيط، فموقع “الفيسبوك” على سبيل المثال يدفع إلى التركيز على من تفاعل مع ماذا؟ ومن علق على تعليق هذا المستخدم أو ذاك؟ وثانيهما اجتماعي، ويتثمل في التوافق بين الأخبار المعدية التي تركز على الجانب العاطفي والوجداني في الأحداث، ومزاج المستخدم الذي أصبح يحتكم إلى مشاعره وأهوائه وقناعاته الشخصية أكثر من اعتماده على موضوعية الأخبار.

وبهذا دفعت صحافة العدوى العمل الصحفي إلى الانزياح عن الحديث باسم الجمهور في الفضاء العام، وطرح القضايا ذات الصلة بالمصلحة العامة، إلى محاولة تلبية الفضول العام لدى الجمهور، وهكذا أسهمت في إحداث الطلاق بين الأخبار والإعلام، فلم تعد الأخبار تعني الإعلام مثلما كان الأمر منذ قرون خلت.